“مكناس العريقة”: من المجد إلى التدبير العشوائي والقضاء على المساحات الخضراء (الحلقة الثالثة)

بمجرد ما تطأ قدمك مدينة مكناس، تشعر وأنك ترتمي في أحضان التاريخ  وعبق الحضارة المغربية الأصيلة، ويأخذك الحنين إلى ماضي عريق والى شعور بالمجد والعنفوان والقوة.. لكن هذه المدينة التي اتخذها السلطان مولاي إسماعيل عاصمة للبلاد في الفترة الممتدة مابين 1672-1727 م، بدأ نجمها في الأفول، وبعدما كان يتغنى بجمالها المؤرخون والعلماء ووصفوها بالروض والجنان، ها هي اليوم تئن تحت وطأة التهميش و سوء التسيير والتدبير والعشوائية وزحف الاسمنت على كل ما هو أخضر..

في محاولة لتطويق مشاكل العاصمة الاسماعلية نتحدث اليوم عن خطايا أو أخطاء المنتخبين والمسؤولين وغياب روح المواطنة، ضمن الحلقة الثالثة من سلسلة حلقات حول مكناس العتيقة، من إعداد الأستاذ عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية..

الخطيئة الأولى : جدار عازل لحجب اللوحة الرائعة للمدينة القديمة

لا ندري ماذا أصاب “المسؤولين” عندما اختاروا الجهة الجنوبية من المساحة الشاسعة لما كان يعرف بفضاء المعارض بالمدينة الجديدة لبناء المقر الجديد للمحكمة الابتدائية.حقيقة أن المقر الحالي لهذه المحكمة بساحة للا عودة أصبح غير لائق للعمل نظرا لضيق مساحته وتقادم بنيانه واهترائها.

مكناس3 min 1

وبالتالي، فقد كان إطلاق مشروع بناء المقر الجديد أمرا ملحا وقرارا صائبا. والحقيقة التي لا غبار عليها هي أن البناية الجديدة تعتبر من أجمل البنايات بالمدينة. ولكن، ألم يجد “المسؤولون” غير هذا المكان لبناء هذا المقر، الذي تحول، رغم جماليته، إلى سد منيع وجدار عازل يحجب جزءا مهما من اللوحة الرائعة للمدينة القديمة التي كان يتمتع بها الزوار عندما يقفون بالساحة الإدارية، على مشارف المدينة الجديدة، علما أن العاصمة الإسماعيلية تتوفر على آلاف الهكتارات من الأراضي الخصبة التي استبيحت للبناء، ومن بينها أراضي شاسعة من أملاك الدولة وأراضي الحبوس. ألم يكن الأجدر اختيار مكان آخر غير هذا الموقع لحماية رونق المدينة وجماليتها ؟

وما يخشاه الإنسان هو أن يكون بناء مقر المحكمة مجرد بداية قبل اكتساح مساحة المعرض بكاملها، لأن الإشاعات التي تروج حاليا تفيد بأن هناك مشاريع أخرى مبرمجة يمكن أن ترى النور في أية لحظة.

وإذا ما حصل ذلك، فإن أركان الخطيئة العمرانية ستكتمل، لأن البنايات الجديدة على طول مساحة المعرض، إذا ما تم تشييدها (ولا نتمنى ذلك)، ستكون بمثابة حصن حصين يحجب كليا اللوحة الجميلة التي تمنحها أحياء المدينة القديمة. وهذا شيء غير معقول ولا يمكن قبوله.

باب min

فلتتحمل الوكالة الحضرية مسؤوليتها لحماية جمالية المدينة والحفاظ على انفتاح أحيائها وتلالها على بعضها البعض. وعلى جمعيات المجتمع المدني التسلح بما يلزم من الحذر واليقظة لمواجهة كل ما من شأنه تشويه النسيج العمراني للمدينة. وعلى السلطات المركزية التدخل لوقف هذا الهجوم الكاسح للإسمنت المسلح بشكل فوضوي. وسنتابع هذا الموضوع عن كثب.

الخطيئة الثانية : مركب الأوقاف أكبر حجما من الوزارة الأم

لا شك أن من أروع ما كان يستمتع به سكان المدينة هو ذلك المنظر الخلاب الذي كانوا يطلون عليه عندما يقفون على مشارف الجانب الشمالي لساحة كورنيط من “جنانات” خضراء يانعة تمتد من سفوح الدخيسة حتى جبال زرهون والهضبة المطلة على منطقة زكوطة.

 كانت هذه اللوحة الرائعة تجلب إليها الزوار من كل أنحاء المدينة قبل أن تمتد إليها يد مندوبية وزارة الأوقاف لتحرمهم منها، عندما قررت، بدورها، بناء حاجز منيع من الإسمنت على حافة التل المشرف على هذه المناظر الخلابة، أطلقت عليه اسم “المركب الإداري والثقافي لوزارة الأوقاف”، الذي يتكون من مكاتب وقاعات للأنشطة الثقافية ومسجد، وهو بناية ضخمة تفوق، من حيث الحجم، مقر وزارة الأوقاف بالرباط.

 ما يثير الاستغراب في هذا المركب هو أن المسؤولين عن المشروع ارتأوا بناء مكاتبهم الفاخرة في الجهة العليا من التل، لكي يستمتعوا وحدهم بالمناظر الخلابة التي يطل عليها الموقع، وتخصيص الجهة السفلى، أي المنحدر، لتشييد بيت الله. وكان الأجدر بهم، وهم في خطيئتهم العمرانية يعمهون، على الأقل بناء المسجد في الجهة العليا، أي في أعلى التل، حتى يتمكن سكان الأحياء والبوادي المجاورة من سماع الأذان، وحتى تكون صومعته أول لوحة تستقبل القادمين إلى المدينة من الجهة الشمالية.

وكان الأجدر بهم أيضا تخصيص جزء ولو بسيط من هذه الربوة بجانب المسجد لتحويلها إلى مساحة خضراء، مع تجهيزها بما يلزم من أرائك وكراسي وممرات يستفيد منها السكان، ويطلون من خلالها على أرض الله الواسعة ويستمتعوا بدورهم بالمناظر الخلابة التي تمنحها هذه السهول المترامية الأطراف.

 ولكن، “لمن تقرأ زبورك يا داوود” أمام “مسؤولين” قرروا ملء كل متر مربع بالإسمنت المسلح وحذف أي أثر للمساحات الخضراء من برامجهم، ما عدا الحديقة الخاصة المحيطة بمكاتبهم والتي لم تسلم من الإهمال.

والغريب هو أن المسجد المتواجد وسط مركب مندوبية وزارة الأوقاف وتحت أنظار مسؤوليها وموظفيها، يعاني من عتمة الظلام خلال صلوات الصبح والمغرب والعشاء والتراويح، علما أن أغلب العاملين بالمركب، ومن بينهم المكلفون بالصيانة والتجهيز الذين يؤدون، دون شك، صلواتهم بنفس المسجد، لم يكلفوا أنفسهم عناء تغيير ثلاثة أو أربعة مصابيح ضعيفة للغاية بأخرى أكثر قوة بساحة المسجد وعند مدخله الرئيسي، بهدف توفير الإنارة الكافية للمصلين وضمان سلامتهم. هذه حقيقة لا غبار عليها، لدرجة يمكن التأكيد معها أن الإنارة التي يوفرها القمر أقوى من تلك الموجودة حاليا، على العكس تماما من مكاتب هؤلاء المسؤولين التي تتوفر على مصابيح عديدة وقوية، وربما من كل الأشكال والأحجام. أنيروا بيت الله من فضلكم، أولا لأن ذلك يدخل في صميم مسؤولياتكم، وثانيا لأن من ينير بيت الله، ينير الله طريقه.

والغريب هو أن هؤلاء السادة المسؤولين صرفوا ميزانية ضخمة لبناء هذا المركب وتغافلوا عن الرصيف المحاذي لجدار المسجد والممتد من المدار الطرفي في الأعلى حتى مدخله الرئيسي في الأسفل. وهي مسافة لا تتجاوز 150 مترا على أكبر تقدير، يعني نقطة في بحر من ناحية المصاريف، تاركين المصلين أمام اختيارين لا ثالث لهما : إما المرور وسط الأوحال في فصل الشتاء، أو مزاحمة السيارات على الطريق. وإذا كان هؤلاء المسؤولين ينتظرون من المجلس البلدي أن يقوم بترميم هذا الرصيف، لأنها فعلا من اختصاصاته، فإنهم واهمون.

نفس الملاحظة، فيما يخص المساحة الشاسعة المحيطة بالمركب والمفروض أنها حديقة محيطة بالبناية. فقد تم إهمالها وتركها عرضة للنباتات والأعشاب الزاحفة عليها من كل جانب، تتوسطها أكوام من متلاشيات الأخشاب والحديد من مخلفات الورش، خلفها المقاول وراءه ورحل.

وقد كان من المفروض العناية بهذه المساحة وتحويلها إلى حديقة جميلة، الشيء الذي يمكنه أن يغير المنظر العام بشكل جذري، علما أن المندوبية المعنية التي كلفت نفسها عناء تخصيص ميزانية كبيرة لإنجاز هذا المركب، بإمكانها تخصيص غلاف مالي بسيط للعناية بهذه الحديقة، التي إذا ما تم إحداثها فعلا، ستساهم في إبراز الجوانب الفنية لهذه البناية، ولن تزيدها إلا رونقا وجمالا، ولكن هذا المنطق الراقي لا يستسيغه إلا من يمتلك ذوقا فنيا راقيا.

فهل يمكن ربط الانخفاض المريب لعدد المصلين خلال صلاة العشاء والتراويح بهذا المسجد الفسيح مع حالة الإهمال هذه، خاصة ما يتعلق منها بضعف الإنارة ؟ لا غرابة في أن يكون هذا الربط صحيحا، حيث أن عدد المصلين خلال صلاة التراويح لا يتجاوز ثلاثة صفوف أو أربعة كل ليلة، في وقت تغص فيه باقي مساجد المدينة بأعداد كبيرة من المؤمنين. وإذا كان نفس المسجد يمتلئ عن آخره يوم الجمعة، فإن الفضل في ذلك يعود بالأساس لكفاءة الخطيب، ومستوى أدائه الرائع، سواء من حيث طريقة التفسير المبسطة التي ينهجها، أو دينامية الإلقاء والتبليغ التي تجذب المتلقي وتجعله يعيش مع موضوع الخطبة بكل جوارحه. فشكرا له وبارك الله فيه و”كثر” من أمثاله.

الخطيئة الثالثة:  قرارات في غاية السلبية والغرابة

ويتعلق الأمر هذه المرة أيضا بالجدار المنيع من العمارات الشاهقة التي تم تشييدها أمام ثانوية مولاي إسماعيل، وعلى بعد أمتار قليلة من المداخل الرئيسية لهذه المؤسسة التعليمية الرائدة. نقول خطيئة، لأن بناء هذه العمارات أفقد الثانوية فخامتها وجمالية هندستها، وحرم روادها من التمتع بمناظر التل المقابل، الذي يحتضن ثانوية للا أمينة والفيلات الجميلة لساحة كورنيط.

إن اختيار هذه الأماكن الاستراتيجية بالمدينة لبناء هذه الحواجز البئيسة، في تحد سافر لأبسط قواعد المنطق السليم وخرق صارخ لتناسق النسيج العمراني بالمدينة، يسائلنا عن الحالة النفسية التي يكون عليها بعض “المسؤولين” عندما يتخذون قرارات في غاية السلبية والغرابة.

 كيف يفكر هؤلاء الناس؟ ما الفائدة من جحافل المهندسين والتقنيين والفنيين الذين تزخر بهم الوكالة الحضرية والمجلس البلدي والعمالة إذا لم يبادروا إلى إثارة انتباه “المسؤولين” إلى هذه الخطايا العمرانية الجسيمة قبل الموافقة على منح رخص البناء ؟ من يتحمل عواقب هذه الجرائم العمرانية (لأنها جرائم حقيقية) التي تساهم في تشويه النسيج العمراني للمدينة والتي ستعاني مدينة مكناس من تبعاتها على مدى الأجيال القادمة؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ذ. عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية..

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar