أخصائي نفساني: تهديد الأطفال بنيران جهنم يخلق “أجيالا متطرفة”

د.جواد مبروكي*

 

في أحد الأيام، زارني أب ليعرض عليّ حالة ابنه البالغ من العمر 7 سنوات. وكان هذا الطفل يعاني من الأرق ولم يعد بمقدوره أن ينام لوحده لأنه تنتابه نوبات من الرعب الشديد طوال الليل، وحتى بعد نقله للنوم في غرفة والديه صار يتبول على فراشه. أما في النهار فلم يعد باستطاعته التركيز في دروسه، وضعفت شهيته للأكل. وكل هذه الأعراض اجتمعت فيه بدون أسباب واضحة.

 

اكتشفت أن بعدما كان في عطلة عند عمته سألته هذه الأخيرة: "كَتْصْليّ اَوْلْدي؟"، فأجابها بالرفض، فهددته قائلة: "إلى مَصْلِّتيشْ غَدي تْمْشي للنار وغَدي يْحْرْقك الله ويْعْلْقّْك مْن شْفارْك وْمْليّ تّْحْرْقْ غَدي يْرْدّْك كيف كْنْتي وْعَوْتاني يْحْرقْك وْتْبْقى هاكا وْمَعْمْرْك وْلَتْشوفْ جْنَّة، وْعْرْفْتي النار بْحال وَحْدْ المْجْمْر كْييرْ بْزّافْ وْتْبْقى كَتْشّْوّْطْ فيه دايْمْنْ". وما هذه إلا قطرة من بحر حالات اِرهاب الأطفال في مجتمعنا.

 

فما هو الشعور نحو مفهوم الدين وكينونة الإله، ومفهوم العقاب والتواب والعذاب، ومفهوم النار والموت، وما يُكونه الطفل في تصوره المُبكر وكيف له أن يكبر تحت وطأة العُقد المجتمعية وفي ظل هذا الارهاب المرتبط بتشويه هذه المفاهيم؟ وأي حُب وأي تَقرب من الدين يمكن تحقيقه بهذه الممارسات والتطبيقات الخطيرة البعيدة كل البعد عن حقيقة الدين وجوهره؟

 

ألاحظ أن كل ما يربط الطفل بالدين وبالخالق، "سيدي ربي"، هو ما يُقدم له بطرق سلبية لا تربوية، من مفاهيم الحرام والعذاب والنار وقسوة الله في تعذيب الإنسان عند موته وانتقامه من كل من يخالفون أوامره في الدنيا والآخرة.

 

وأذكر في هذا السياق أنه أثناء إحدى الجلسات، طرح عليّ طفل السؤال التالي: "عْلاشْ الله خْلقْنا باشْ يْعطينا دينْ وْاِلا مَتْبّْعْناشْ يْعْدّْبْنا في النار مْنْ بْعدْ؟ لْوْكانْ الله مَخْلقْناشْ لْوْ كانْ هْنَّنا". فوجئت بمنطق هذا الطفل الصغير وتعلمت منه الكثير واستخلصت أن هناك خللاً كبيراً في مفهوم الدين والألوهية عند الكبار الذين يُسربون هذه المفاهيم الخاطئة إلى الطفل. والنتيجة هي التي نراها يوميا في سلوك شبابنا وابتعادهم عن الدين الذي كرهوه من جراء ما رأوه وسمعوه من الكبار بمناهجهم الخاطئة والخطيرة.

 

بهذه الطرق السائدة نرسخ لدى الطفل ثقافة الخوف والرعب من الدين من خلال مشاعر سلبية تجعله يعيش في مراحل مبكرة تحت ضغوط التهديد والخوف الدائم، وهذا الترسيخ يجعله يفقد الثقة في نفسه وفي الدين وفي الله، ويُبعده تماماً عن جوهر الدين وغاياته، مما يُشكل خطرا عليه في بقية مراحل نموه؛ بحيث قد يميل إلى ممارسة ما حُذر منه (الكذب والسرقة والشر…).

 

وكل هذه الأمور تفسر لنا الجذور التي ساهمت في الابتعاد اللاشعوري عند الشباب عن الدين وقيمه وفضائله الأصيلة إما من خلال التطرف في العيش بعيداً عنها، أو في الغلو والتطرف بالاتجاه المعاكس في ممارسة التدين الشكلي السطحي وممارسة الوصاية على الآخرين.

 

في حين إذا اجتهدنا أن نرسخ بمحبة، قولاً وفعلاً، لدى الطفل أن السلوك الطيب والتعاملات وفق القيم الروحانية والفضائل الاخلاقية شيء محمود عند الله فسوف يكون الدين محبوباً لديه، وسوف يُحدث تغييرا ايجابيا بداخله ويزيد في ثقته بالله وبالإنسان وبنفسه، وبطريقة طبيعية سيميل إلى هذه المفاهيم الإيجابية المرسخة في ذهنه، وتتجه سلوكياته إلى كل ما هو طيب وخير.

 

ونعرف أنه وفقاً لعلم النفس إذا طلبنا من طفل فعل شيء طيب وأكدنا له أن غايته في الحياة هو فعل الخير، فإننا نرسخ لديه في ذهنه مفاهيم الخير والمحبة، وهذا الترسيخ يكون مصدر إلهام وإرشاد روحي؛ بحيث يغلب عليه التوجه السلوكي الإيجابي.

 

في مهنتي أعرف أن لكل كلمة ثقلها الخاص وتأثيرها، وفي العلاج كل كلمة قبل نطقها تكون مدروسة ومختارة بعناية، وهادفة ومناسبة للشخص حسب مشكلته ووضعيته وطبيعة شخصيته، ولا أتكلم كما نتكلم في الجمع. الشيء نفسه في تربية الأطفال؛ فكل كلمة لها ثقلها بإمكانها أن تكون كالزهرة العطرة أو كالسم القاتل.

 

فماذا يجب أن يعرف الإنسان في طفولته عن الدين والحياة والموت وعن الله؟ وما هو هدف الكبار من تلقين الطفل هذه المفاهيم؟

 

الطفل بحاجة في المقام الأول إلى الاحساس بالأمان والثقة مع كامل الحنان، علماً أن للحنان دوراً كبيراً في نمو الطفل من حيث تقوية شخصيته وانضباط مشاعره وتحقيق توازنه وتطوير الوظائف الذهنية لديه، كما له دور حيوي في استكمال نمو دماغه عضوياً.

 

ألا يكون من الأفضل أن نُشعِرَ الطفل بالحنان والرحمة الإلهية الشاملة للجميع؟ ألا يكون من الأفضل أن يستوعب الطفل بأن الدين هو برنامج إلهي يمكنه من وسائل وآليات لتطوير قدراته الشخصية والروحانية؟ ألا يكون من الأفضل أن يشعر الطفل بأن الحياة رحلة ممتعة، وبأنه بعد الموت سيتم اللقاء مع الإله الخالق الرحيم وسيجد بجانبه السعادة الأبدية؟

 

ثم، أليس حري بنا أن نقدم للطفل صورة صادقة تفيد بأن الله محبة، وأنه أحبنا فخلقنا ويريد منا أن نحب جميع البشرية؟ أليس من الأفضل أن نقدم للطفل الدين كوسيلة لاتحاد وصلاح البشرية وليس سببا لتفرقتها وفنائها؟

 

فكيف إذن سيكون تصور الدين عند الطفل إذا علمناه هذه المفاهيم الجميلة التي ترتكز على الفضائل الإلهية بدون تهديد أو غلو في الترهيب؟ ولكم أن تتخيلوا كيف سيصبح مجتمعنا آنذاك.

 

*طبيب ومحلل نفساني

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar