سويسرا لا تراهن على الانضمام إلى الاتحاد الأوربي وتفضل التعاون الثنائي

لا يبدو أن الظرفية الجيوسياسية والاقتصادية التي تخيم على القارة الأوروبية منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية تحمل صناع القرار في سويسرا على تغيير التوجه العام للدولة في رفض الانضمام إلى الإطار الاتحادي الأوروبي، والمراهنة على العلاقات الثنائية بديلا عن الالتزامات متعددة الأطراف.

تتواصل المفاوضات الاستكشافية بين سويسرا والاتحاد الأوروبي حول مستقبل علاقاتهما، لكن التقرير السويسري الرسمي الذي صدر في دجنبر الماضي لا ينبئ بتخلي العاصمة برن عن الهوية المتفردة للدولة التي تريد أن تعيش انتماءها الأوروبي بطريقتها الخاصة: مع دول القارة في إطار ثنائي لكن خارج الاتحاد كمنتظم متعدد الأطراف.

وفي ماي 2021، قطعت الحكومة السويسرية المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق الإطار، مفضلة الاستمرار في المسار الثنائي، وكان رد فعل الاتحاد الأوروبي الأولي مجموعة إشارات غاضبة، من بينها إزالة سويسرا من قائمة الدول المشاركة في برنامج البحث العلمي “أفق أوروبا”. حدث انفراج في الأزمة، وعاد الجانبان إلى طاولة المحادثات الاستكشافية، لكن الطريق مازال متشعبا.

ولم تفلح الدعوات إلى تسريع المسار الاندماجي الأوروبي لسويسرا تماشيا مع التحديات الجديدة، وخصوصا في المجالين الأمني والطاقي، في إحداث اختراقات ملموسة. لقد درس المجلس الاتحادي السويسري مشروع تقرير “الوضع الحالي للعلاقات بين سويسرا والاتحاد الأوروبي”، وتوصل إلى استنتاج مفاده أن المسار الثنائي يظل الحل الأكثر فائدة لسويسرا. وقد تم اعتماد التقرير بناء على نتائج التشاور مع لجنتي السياسة الخارجية في مجلسي البرلمان.

“لسويسرا مصلحة جوهرية في أن تكون لديها علاقة مستقرة ومنظمة بشكل جيد مع الاتحاد الأوروبي”، يقول الرئيس الجديد للاتحاد السويسري، آلان بيرسيه، في حديث خاص لموقع سويسرا الإخباري (suiss. Info). ويضيف قائلا “منذ بضعة أشهر، ونحن نجري محادثات استكشافية مع بروكسيل، سجلت بعض التقدم. وعلى الحكومة السويسرية الآن إجراء تقييم لهذه المحادثات ومعرفة الطريقة المثلى لمتابعة هذه النقاشات”. تبدو هذه النبرة أقرب إلى تزكية المنحى التقليدي المتحفظ تجاه أي انضمام عضوي ينهي هذه “العزلة الإرادية” التي اختارتها الدولة منذ زمن أسلوبا في الحياة الدولية والتفاعل مع المحيط.

لقد دشنت سويسرا في 2023 مرحلة جديدة من تموقعها الاستراتيجي الدولي باحتلالها مقعدا غير دائم بمجلس الأمن لأول مرة في تاريخها، لكن حتى اليوم، لا مجال للقيام بمماثلة بين الانخراط في العمل الأممي من جهة وتوقع تحقيق خطوات سويسرية ملموسة تجاه المنتظم المؤسساتي الأوروبي. لا شك أن سويسرا راقبت مسلسل البريكسيت الذي انتهى بانسحاب بريطاني من الاتحاد الأوروبي، غير أن الحالة السويسرية مختلفة، لأنها تتصل بترتيبات وخيارات استراتيجية واقتصادية قديمة ومتجذرة، وحسابات خاصة لمعادلة الربح والخسارة.

سويسرا غير مستعدة للتنازل عن هوامش مناورة واسعة من خارج الإطار المؤسساتي الأوروبي، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي وحتى الثقافي. وفضلا عن ذلك، لا يمكن القفز على حقيقة أن الاتحاد الأوروبي ليس مجرد آليات للعمل الاقتصادي والدبلوماسي والثقافي والسياسي، بل أيضا سياسة دفاعية وأمنية مشتركة، مما يجعل الانخراط في هذا الإطار متنافيا، على نحو ما، مع نظام الحياد السويسري، وإن كان هذا الأخير محل إعادة نظر وتكييف متواصلين.

ويقدم مشروع التقرير حول “الوضع الحالي للعلاقات السويسرية- الأوروبية” لمحة عامة عن العلاقات الثنائية بين سويسرا والاتحاد الأوروبي والمناقشات الاستكشافية مع التكتل. في هذا التقرير، يقر المجلس الفيدرالي بالدور الأساسي الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي كلاعب عالمي وأهمية السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي وبرامج التعاون المختلفة بالنسبة لسويسرا.

فالاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لسويسرا التي تعد من جهتها رابع أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي. ويشترك الطرفان في نفس القيم الأساسية، حسب التقرير. ويلاحظ المجلس الفيدرالي أن السياسة الأوروبية هي سياسة الدفاع عن المصالح، وأن مصالح سويسرا تبدأ في أوروبا. وفي عالم يعاني من أزمات متعددة، من المهم للغاية ضمان علاقات مستقرة بين سويسرا والاتحاد الأوروبي، كضمان للازدهار والاستقرار لكلى الطرفين.

ويجري التقرير تقييما للمسار الثنائي ولخيارات السياسة الأوروبية الحالية لسويسرا على أساس أربعة معايير: الوصول إلى السوق الموحدة، وإمكانيات التعاون، والحيز السياسي للمناورة، وسؤال الجدوى في السياسة الخارجية. وقد خلص المجلس الفيدرالي السويسري في تقريره إلى أن المسار الثنائي يظل الحل الأفضل لسويسرا. إنه الخيار الذي يضمن، في نظره، التوازن المنشود بين الاحتفاظ بالاستقلالية من جهة والاندماج الدولي من جهة أخرى.

نعم، تخسر بعض القطاعات الحيوية في سويسرا من خيار الوجود خارج الاتحاد الأوروبي وعدم الاستفادة من برامج إنماء وتعاون طموحة على غرار مشاريع دعم البحث والتعاون العلمي، لكن النخبة السويسرية على بينة من الخسائر الجانبية للرؤية الاستقلالية التي خولت بلادها مكانة متميزة في ساحة الأمم المتقدمة.

المقاربة الثنائية للعلاقات مع دول أوروبا رؤية ثابتة بالنسبة للسويسريين حتى الآن، لكن تنتظرها اختبارات حاسمة تمليها ظرفية إقليمية ودولية عالية التوتر والاضطراب. يقينيات قليلة تصمد أمام رياح التغيير التي تعصف من الغرب والشرق.

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar