ابنو عتيق..الصناعات العسكرية، الحرب الروسية الأوكرانية وتراجع بعض الكبار

التطور التركي الذي أشرنا إليه في المقال السابق، يقابله تعثر فرنسي من خلال التأخر الذي عرفه إنتاج الدرونات، والذي عاينته المصالح المختصة منذ سنة 2003، في غياب بديل، اضطرت الجيوش الفرنسية إلى الاستعانة بالسوق الأمريكي نظرا لحاجياتها الميدانية، وخوفا من وقوع قطاعات أخرى في الإشكال نفسه، اتجه الدعم نحو الحفاظ على التفوق في ميدان الطيران الحربي من خلال مساندة شركة “داسو” في برنامجها الخاص بالجيل الجديد من طائرات “الرفال”، القادرة على منافسة الطائرات الأمريكية “ف 35″، بدليل أنه بالإضافة إلى الجيش الفرنسي الذي يتوفر على أسطول يتكون من 192 طائرة، فإن دولا عديدة، التي تعي جيدا أنها لن تستطيع اقتناء “ف 35” الأمريكية لاعتبارات جيو-إقليمية مرتبطة برغبة واشنطن في الحفاظ على إسرائيل كقوة أساسية حليفة لها في منطقة الشرق الأوسط، سارعت كل من مصر إلى شراء 54 طائرة “رافال”، وقطر 36، واليونان 24، لكن أهم صفقة هي التي وقعتها شركة “داسو” مع الإمارات العربية المتحدة سنة 2022 لشراء 80 طائرة “رافال”، مع ما يتطلب ذلك من أسلحة لتجهيزها، بمبلغ وصل إلى 16 مليار يورو، ولقد نص العقد على أن يكون برنامج التسليم قصيرا، يبدأ سنة 2027 وينتهي سنة 2031، ومعلوم أن الإمارات العربية المتحدة تتوفر على عدد كبير من طائرات “ميراج 9-2000 الفرنسية”، التي تحظى بمتابعة واهتمام مجموعة من الدول، منها المغرب ومصر واليونان.

في السياق نفسه وخوفا من تدهور الوضع العسكري في أوروبا، وبعد توقف العمل المشترك الفرنسي الألماني حول مشروع إنتاج طائرة لمراقبة السواحل البحرية، اتجهت باريس بسرعة نحو كل من شركة “داسو” و”ايرباص” فرع الصناعة العسكرية لإيجاد بديل ينطلق من طائرة “ايرباص A320” و”فالكون 10X”، مع الإلحاح على أن تكون الطائرة الجديدة جاهزة في أفق 2030، والتأكيد على أن مرحلة الدراسة يجب أن لا تتعدى 18 شهرا.

ودائما خوفا من هاجس حرب شاملة بالأراضي الأوروبية، قامت القوات الجوية الفرنسية بتسريع وتيرة التوصل بالطائرات المخصصة بتزويد المقاتلات جوا بالوقود، معتمدة على نجاح التجربة الأوروبية من خلال شركة “إيرباص”، التي استطاعت تحويل طائرة النقل المدني “ايرباص A330” إلى طائرة قادرة على القيام بالعملية المذكورة سابقا، التي أطلق عليها اسم “A330MRTT”، وجدير بالإشارة إلى أن أشغال تجهيز هذه الطائرة يتم بأوراش إسبانية موجودة بمدينة “خيطافي”، توصل الجيش الفرنسي إلى حدود سنة 2022 بـ 12 طائرة من هذا النوع.

الحفاظ على الجودة التكنولوجية العالية للطائرات الحربية شرط أساسي، لا سيما بالنسبة للدول التي تملك أسلحة نووية، مادام أن جزء من هذه المقاتلات يتوفر على إمكانيات خاصة تسمح لها باستعمال الصواريخ ذات الرؤوس النووية، لكنها حسب الخبراء غير كافية بدون مساندة الغواصات البحرية، باريس اكتشفت من خلال التعقيدات الجيو-استراتيجية المتتالية في القارة العجوز، وكذلك من خلال الأحداث التي عرفتها منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، الذي كاد أن يتحول إلى مسرح لحرب بحرية تركية فرنسية، بعد دعم الاتحاد الأوروبي لليونان وقبرص في إطار ما يسمى بمعركة ترسيم الحدود البحرية، خاصة وأن المنطقة عرفت اكتشافات للغاز بكميات كبيرة، من هنا طرح نقاش حول الأهمية الاستراتيجية لمجموعة من الغواصات التي أصبحت متجاوزة نظرا لعامل السن، وتحت ضغط الظروف الدولية الحالية، تم السماح مؤخرا للمديرية العامة للأسلحة بفرنسا بإطلاق برنامج يهم تحديث الأسطول البحري الحربي، من خلال الشروع في بناء غواصات من الجيل الجـديد مكـلفة بإطـلاق الصواريخ النــــووية والتي ستعرف باسم «SNLE3G»، لتعـويض الغواصات الأربعة القـديمة والمـكـونة مـن «le Triomphant S616» و«le Téméraire S617» و«le Vigilant S618» و«le Terrible S619»، مع التأكيد هنا على أن الحد الأدنى المطلوب، حسب المختصين، من الغواصات النووية للقيام بالمداومة الدائمة الضرورية في أعماق البحار، يجب أن لا ينزل على أربعة، تشتغل بالتناوب طيلة السنة.

الصفقة كانت من نصيب شركة “نفال كروب” «Naval Group»، التي استفادت من مشروع بناء غواصات أخرى نووية جديدة لكن بأدوار هجومية، لتعويض الغواصات الست الموجودة حاليا، مثل «Rubis» التي دخلت الخدمة منذ سنة 1983 و«le Saphir» سنة 1984 و«Casabianca» سنة 1987 و«Perle» سنة 1993.

هذا البرنامج لم يعرف كما كان الحال من قبل نقاشا أو معارضة تبديها عادة وزارة المالية لمثل هذه المشاريع من خلال تسريبات في بعض وسائل الإعلام، ينتج عنها اصطدام بين المسؤولين في أعلى هرم الدولة، مثل ما وقع بين الرئيس “ماكرون” وقائد القوات الفرنسية السابق “بييردوفيليي”، والذي عجل باستقالة هذا الأخير بعد انحياز قصر الإليزيه إلى الرؤية المالية التكنوقراطية التي تحكمت في صناعة القرارات الرئيسة خلال ثلاثين سنة الماضية، والتي كان من ضحاياها قطاع الصناعات العسكرية.

تشبث روسيا وأوكرانيا بالاستمرار في الحرب، أضعف هذا الاتجاه ودفعه إلى التزام الصمت وقبول الأمر الواقع، وهو ما يفسر قرار الرئيس الفرنسي رفع ميزانية الدفاع إلى 400 مليار يورو في الفترة الممتدة ما بين 2024 و2030؛ مجهود عادي بالمقارنة مع قوى صناعية أخرى في مجال صناعات الأسلحة، بدليل أن فرنسا، حسب إحصائيات سنة 2021، تحتل فقط المرتبة السابعة عالميا في ميدان التفوق العسكري البحري، وراء كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وبريطانيا واليابان والهند.

انفجار الحرب الروسية الأوكرانية طرح كذلك سؤالا قديما بثوب جديد، يتمثل في مدى قدرة الصناعات العسكرية الفرنسية التي تعرضت في السنوات الماضية إلى عمليات إعادة الهيكلة أدت إلى اختفاء جزء كبير منها، مما أثر على تجهيز الجيوش الفرنسية في حالة نشوب حرب شاملة. النقاشات التي عرفتها بعض القنوات التلفزية مؤخرا كانت صادمة لجزء كبير من الرأي العام، الذي لاحظ تأخرا في تعويض الأسلحة التي تستعملها الجيوش البرية الفرنسية منـذ أربعين سنة، مثــــل «AMX-10RCR» أو «VAB HOT» أو الدبابة “لوكير” في نسختها القديمة قبل انطلاق برنامج تحديثها لتكون مسايرة للتحولات الحاصلة في ميادين المعركة.

وبالرغم من انطلاق برنامـج وقع بين الدولة وتكتل صناعي ضم كلاًّ من “نكستير سيتيم” «Nexter systems» و”رونو فرع الدفاع” «RTD» وشركة “طاليس” «Thales»، الهدف منه هو إنتاج أسلحة جديدة مثل “جكوار” «Jaguar EBRC» القادر على تعويض ثلاث مركبات مدرعة، يتوفر على مدفع رشاش مرتبط مباشرة بصواريخ مضادة للدبابات من الجيل الجديد، ثمن القطعة الواحدة يصل إلى 4,5 ملايين أورو، السقف الزمني المتفق عليه للتسليم هو ما بين 2022 و2035، ثم ناقلات الجنود جديدة أطلق عليها اسم «le Griffon»، ثمن القطعة الواحدة 1,5 مليون يورو، بدأ التوصل بها منذ سنة 2022، على أن ينتهي برنامج التسليم في مستهل سنة 2030، ثم المدرعات الخفيفة من نوع “سيرفال” «Serval» مبرمج التوصل بها ما بين 2022 و2031، فإن هذه الديناميكية الجديدة التي أملتها ظروف الحرب، جاءت متأخرة لتدارك النقص إذا ما استحضرنا قدرة سلاسل الإنتاج على مواكبة الطلب كما وقع مؤخرا في حالة مدفع “سيزار” الذي اضطرت معه شركة “نيكستير” إلى الرفع من وتيرة الزمن الصناعي للاستجابة لطلبات الجيش الفرنسي من جهة، واحترام العقود الموقعة مع الدول المستوردة من جهة أخرى، فمنح أوكرانيا 18 قطعة من هذا السلاح شكل ربع ما يتوفر عليه الجيش الفرنسي، نقاش آخر برز إلى الوجود في الأيام الأخيرة يؤكد خطأ الجهات التي كانت وراء توقيف إنتاج الدبابة “لوكلير”، هذا القرار استفادت منه ألمانيا بشكل كبير، حيث استطاعت بيع 2000 نسخة من دبابة “ليوبارد2” في السوق الأوروبية مستفيدة من غياب منافسة قوية، أضف إلى هذا أن الجيش الفرنسي حاليا لا يتوفر إلا على 222 دبابة “لوكلير”، وهو عدد قليل في حالة نشوب حرب تعتمد على هذا النوع من الأسلحة الثقيلة وما يصاحبها من آليات لوجستيكية وذخيرة كافية، ففي سنة 1990، فرنسا كانت تملك 1348 دبابة، انخفض هذا العدد إلى 254 سنة 2012 ثم 222 سنة 2022.

ملاحظة أخرى يتطرق إليها المتتبعون لمجال البحث العلمي المرتبط بالصناعات العسكرية المتعلقة بوكالة الابتكار الفرنسية في مجال الدفاع، التي انطلق بها العمل سنة 2019، هي أنها لا تتمتع باختصاصات قانونية تسمح لها بالقيام بالدور الذي تتكلف به الوكالة الفيدرالية الأمريكية، هذه الأخيرة تتوفر على ميزانية تصل إلى 2,6 مليار دولار، في حين إن ميزانية الوكالة الفرنسية لا تتعدى مليار يورو سنويا.

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar