سجلماسة…حاضرة تافيلالت ومهد الأسرة العلوية ومركز القوافل التجارية عبر التاريخ

لا شيء يعلو على الصمت والهدوء في موقع سجلماسة الأثري، وخلف ستار الصمت تتحدث أطلال وبقايا أسوار طينية متناثرة عن مدينة عريقة وقديمة دفنت تحت الأرض، وما زالت رغم توالي الحفريات لم تكشف بعد عن كل أسرارها.

بجوار مدينة الريصاني -التي تبعد عن الرباط حوالي 550 كلم- يمتد موقع سجلماسة الأثري الذي يسرد حكاية ثاني مدينة بنيت بالغرب الإسلامي بعد القيروان، كانت لها أهمية إستراتيجية اكتسبتها من موقعها الذي كان يربط القوافل التجارية العابرة بين المغرب وأفريقيا جنوب الصحراء، في الفترة ما بين القرن الثامن والرابع عشر الميلادي، قبل أن تتحول إلى خراب.

وتعتبر سجلماسة من المدن المغربية الضاربة في القدم؛ وحسب العديد من الباحثين والمهتمين بالتاريخ، فقد أسست كثاني مدينة إسلامية تم بناؤها بالغرب الإسلامي بعد مدينة القيروان.

 كانت تقع في الجنوب الشرقي للمملكة المغربية وتطل على واد زيز وغريس وتودغة، بالقرب من مدينة الريصاني حاليا التابعة إداريا لإقليم الرشيدية كمكون من جهة درعة تافيلالت.

أسّسها بنو مدرار الخوارج الصفرية في أواسط القرن الثاني للهجرة/ الثامن الميلادي، وبالضبط في سنة 140 هـ/ 757 م، واعتبرت عاصمة أوّل إمارة مستقلة عن الخلافة بالمشرق، وتسمّيها الساكنة بالمدينة العامرة أو المدينة الكبيرة.

 والنفوذ الجغرافي للمدينة كان يتّسع ويتقلّص تبعا للظروف السياسية التي عرفها المغرب في تلك الفترة؛ ففي فترة حكم المدراريين اتسع نفوذها حتى مناطق درعة، ووصلت إلى مناطق قريبة من فاس في فترة حكم المغراويين، لتغدو تابعة للدول التي تعاقبت على حكم المغرب كالمرابطين والموحدين والمرينيين.

وقد أطلعتنا كتب التاريخ أنّ سجلماسة شكّلت منارة عريقة في التاريخ المغربي قبل مدينة فاس بنحو أربعين سنة أو يزيد، ففي فترة الفتوحات الإسلامية اعتبرت من أثرى المناطق في المغرب وذلك للأرباح التي كانت تجنيها من التجارة مع السودان.

وبعد انهيار دولة بني مدرار استحوذ عليها الشيعة الفاطميون ملوك القيروان، بالنّظر إلى موقعها المتميّز الذي شكّل ممرّا مهمّا للقوافل التجارية التي تربط المغرب ببلاد السودان.

 لكن مع وصول المرابطين إلى الحكم عادت إلى سلطة الحكم المغربي، واستمر الوضع كذلك في عهد الموحدين والمرينيين إلى أن تم تخريبها في فترة حكم السعديين.

وبعد انهيار مدينة سجلماسة تفرّق سكانها في محيطها حيث استقروا في القصور المجاورة، لكن ذلك لم يمنع من تأسيس مدينة جديدة أطلق عليها “تافيلالت”؛ وكانت قائمة في القرن 10هـ/16م، وشكلت منطلق الدولة العلوية الشريفة.

وما زالت بعض من أطلال سجلماسة ماثلة للعيان وشاهدة على تاريخ مضى، حيث تعايشت ساكنة جمعت بين أجناس متعددة. إذ ضمّت الأمازيغ والعرب والأندلسيين والأفارقة وأهل الذمة.

ماض ما زال حيّا فينا يدغدغ مخيالنا الجماعي ويثير فضولنا لاكتشاف كلّ خباياه وفكّ أسراره التي ما زالت تبحث عمن يظهر كلّ شموسها. لكن ما جادت به دواخل المصادر التي عنت بتاريخ المنطقة كفيلة بالخروج بمعطيات ولو قليلة عن صنيع الأسلاف ومجدهم. وقد أفادت مجموعة من المظان التي عبرت الزمن إلينا بمميزات هذه المدينة وخصائصها التي انفردت بها إن اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو دينيا.

وقد اعتبرت سجلماسة بحقّ مركزا تجاريا جذّابا استقطب مجموعة من التجار من مناطق متعدّدة، إذ ربطت الشمال بالجنوب انتهاء بأسواق السودان وغينيا الكبرى (ساحل خليج غينيا)، فقد شكّلت باب معدن “التّبر”، ومركزا مهما يتحكّم في مرور البضائع والسلع عبر المحور الذي يربط المغرب ببلاد الأندلس وإفريقية والمشرق.

لكن إلى جانب موقعها الجيواستراتيجي الذي شكّل أهمّ مداخلها، عرفت مجموعة من الأنشطة المتعددة، لعلّ أبرزها الفلاحة؛ فقد نشطت زراعة الحبوب والقطن والتّاكّوت والنيلة وبساتين النخل والعنب والفواكه المتنوعة وحقول الخضر، حيث استفادت من مياه العيون والمجاري المائية، فما كان يزرع على ضفّة واد زيز كان يزرع على ماء النيل بتعبير الإدريسي؛ والزرع فيه كثير الإصابة رغم قلّة الأمطار بسبب المناخ الجاف القاري الذي يطبع المنطقة؛ ساهم في ذلك التنظيم المحكم لقنوات الري التي أمدّت الحقول والبساتين بالمياه الكافية.

كما اشتهرت سجلماسة بالعديد من الصناعات، من أهمها صناعة المنسوجات، خاصة الصوف، الذي لعبت النساء دورا متميّزا في صياغته. كما نجد صناعة الفخار التي نشطت خارج أسوار المدينة، وكان يصدّر إلى بلاد السودان، إضافة إلى صناعة القناديل الطينية الزيتية ذات الطلاء الأخضر.

ونشطت صناعة الخشب، وكذا صناعة الحديد، الذي اشتهر به أمراء بني مدرار، حيث عمدوا إلى صناعة الأدوات الحربية. كما نمت صناعة صكّ العملة، التي كانت تصاغ من الذهب نظرا لوفرته، إضافة إلى صناعة الحلي.

ونظرا لموقع المدينة ومكانتها كمركز حضري مهم، فقد استقطبت التجّار من مختلف البلدان المجاورة، بل ذاع صيتها إلى بلاد المشرق العربي، ممّا حفّز المستثمرين آنذاك على الاستثمار والاتجار في مجموعة من المواد المختلفة، فنشطت حركة الأسواق الداخلية؛ كلّ ذلك أمدّ سوق ابن عقلة بمنتوجات كثيرة نشّطت حركيته وجعلته من أشهر الأسواق آنذاك بالمنطقة. وتزايدت كذلك التجارة الخارجية، وازدهرت عملية البيع والشراء وبناء الخانات والوكالات لخدمة التجار الأجانب.

 وقد وفّرت تجارة الذهب مع السودان دخلا وفيرا أدخل مجموعة من التجار نادي الغنى الفاحش، حيث شكّلت القوافل التجارية وسيلة آمنة للتصدير والاستيراد؛ وهي قافلة يترأسها قائد متمكن من معرفة الطرق وخباياها وأسرارها، ويستعين بأشخاص على دراية باللغات، عربية كانت أو إفريقية، كما يكون ملمّا بأسرار النجوم والفلك كسند لهم لتجاوز إكراهات الطريق وخطورتها. إضافة إلى العشرات من الخَدم المسلحين لحماية القافلة والتجار والعلماء والفقهاء من أي مكروه.

وعليه، فقد تضمّنت صادرات سجلماسة المواد الغذائية من قمح وتمر وعنب وملح…، ثم المواد المصنعة من نسيج وحلي وفخار وجلد ومواد خشبية، وكذلك مواد التجميل والتوابل من حناء وكحول وكمون وقرنفل. أمّا الواردات فهي متنوعة وتتحدّد أساساً في ذهب السودان وغانا، جلد اللمط وريش النعام من أودغشت، حرير المشرق والفخار الأندلسي.

أمّا العمارة فنجد منها المساجد كمشعل ديني، حيث عرفت تشييد مجموعة من المساجد أهمها المسجد الكبير في وسط المدينة قرب دار الإمارة، الذي لم يتجاوز الطابع الذي كان سائدا آنذاك؛ إذ كان يتوزع على صحن داخلي واسع ومحراب، وفي وسطه سقيفة، وتعلو جدران أروقته فسيفساء، كما يتوفّر على مئذنة مربّعة ودار للوضوء، إلى جانب بيوت لإيواء الطلبة.

كما نجد دار الإمارة، وهي من أهم المرافق الحيوية في المدينة الإسلامية الغربية، وكانت تشتمل على فناء مربع ذي أرضية مبلّطة تربطها شرقا وغربا مجموعة من الأقواس تؤدّي إلى غرف مجاورة، حيث تعلو الجدران قطع من الجبس المصبوغ ومن الخشب المزين برسومات جميلة، وهذا ما يظهر من خلال ما تم اكتشافه من بقايا بعد عملية التنقيب التي أقدم عليها قطاع الثقافة بمعية مجموعة من الشركاء.

وكان السور الخارجي لسجلماسة مبنيا في جانبه السفلي بالحجارة وأعلاه بالطوب، ووصل عدد الأبواب اثني عشر بابا، ثمانية منها حديد. وتواجدت فيها عدّة شوارع كبيرة وأزقة عديدة؛ وبالارتكان إلى صور القمر الاصطناعي تبيّن أن طول الشارع الرئيسي للمدينة يبلغ حوالي 5 كلم.

الدينامية الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها سجلماسة لم تمنع من تطور الحركة الثقافية بدورها، فقد كانت منارة لرجال العلم والأدب، ومضمارا للنقاش والتفاعل في مجموعة من القضايا المذهبية والفكرية. وقد انخرطت في هذه الدينامية كلّ الأطياف المذهبية، الخارجية والسنّية والشيعية والصوفية، وساهمت أيضا في نشر تعاليم الإسلام بين الدول الإفريقية التي كانت تجمعها معها المبادلات التجارية.

سجلماسة رغم مرور قرون على انطفاء شمعتها، فإنها ما زالت تغري علماء الآثار لاكتشاف باقي خباياها وأسرارها الدّفينة.

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar