عندما يتخذ إعلام العسكر من مسجد باريس قبلة للجزائريين

استغرب الكثير من نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي إقدام التلفزيون الجزائري، فجأة وبدون مقدمات، على نقل وقائع صلاة الجمعة ليوم 31 مارس 2023 من مسجد باريس الكبير، حتى تساءل بعضهم عن السر الكامن وراء هذا النقل، وعن الدافع للقيام به في هذا التوقيت بالذات، فقد كان بمقدور القناة العمومية الجزائرية نقل صلاة الجمعة من واحد من هذه المساجد الكثيرة المنتشرة في ربوع “البلد القارة” وفيها الكبير والصغير، الجديد والعتيق، وذلك في ظل الإغلاق غير المبرر “لجامع الجزائر” اكبر مساجد إفريقيا الذي كلف خزينة البلاد نحو ملياري دولار، ولم يفتح منذ اكتمال بنائه سنة 2020 سوى مرة واحدة، وكان ذلك على شرف الرئيس الفرنسي ماكرون وإكراما لشخصه غير الكريم مع المسلمين أثناء زيارته للبلاد صيف 2022 .. !!

كان بإمكان الإعلام الجزائري أيضا نقل وقائع صلاة الجمعة الثانية من هذا الشهر الفضيل من المسجد الحرام او المسجد النبوي أو المسجد الأقصى لو كانت الغاية من هذا النقل دينية، إذ من الثابت في السنة النبوية، أن المسلمين لا يشدون الرحال إلا لواحد من هذه المساجد الثلاثة، لكن عندما يتعلق الأمر بممارسات نظام الكابرانات، الدينية منها والدنيوية، خاصة تلك المتصلة بعلاقاته مع فرنسا، فانه لا يمكن فهمها وتحليل دلالاتها سوى بوضعها في إطارها التاريخي المرجعي الممتد لقرابة قرنين من الزمان، تشمل فترة الاستعمار الفرنسي المباشر ابتداء من 1830، ثم فترة نشأة هذا النظام كنظام وظيفي تابع، واستلامه الهيمنة على البلاد والعباد ابتداء من سنة 1962، وكأنما حبل سري يربط بين الطرفين.. !!

لا عجب إذن في أن تتخذ جزائر العسكر من باريس قبلة لها، ليس بالمعنى الديني وحده بل أيضا وأساسا بالمعنى السياسي والهوياتي للكلمة، فتهتدي بخطب “مسجدها الكبير”، وتتخذ من شوارعها ساحات للاحتفال بأعيادها الوطنية على غرار ما فعلته مؤخرا بمناسبة ما يسمى بـ “عيد النصر” حينما أرسلت حشدا من الأوباش والتافهين وحثالة المجتمع ضحايا سياسة الكابرانات، لباريس، يتظاهرون ويجددون ولاءهم وولاء العسكر لـ “الماما فرنسا”، ومن ثم تذكير رئيسها ماكرون عبر شعارات عنصرية بليدة ضد المغرب والمغاربة، بأنهم أحفاد “دوزيام فرانسيس” و”ليسوا بمغاربة”، حتى يعاملهم بما يعامل به هؤلاء، من تمييز عنصري وطرد وتضييق وحرمان من التأشيرات … !!

لقد أفضت أزمة الهوية، أو بالأحرى إشكالية “اللاهوية” التي تعاني منها البلاد، بنظام الكابرانات إلى الانخراط منذ سنوات في مسعى متكرر لدى باريس لاستعادة ماضي العلاقات الفرنسية الجزائرية تحت عنوان “قضايا الذاكرة المشتركة” عله يجد فيها ما يشكل به هوية تميز جزائر العسكر عن ما عداها من البلدان، وذلك بعدما أنهكته السرقة من هويات الجيران بلا طائل ولا جدوى، وفي هذا الإطار تدخل مطالبه المتعلقة باستعادة “جماجم الأجداد” و”سيف الأمير عبد القادر” و”مدفع بابا مرزوق العثماني” ووثائق الأرشيف المخطوط والمطبوع للحقبتين العثمانية والفرنسية، وفي هذا الإطار أيضا يدخل نقل إعلامه لوقائع صلاة الجمعة من “مسجد باريس” الذي كان المفكر مالك بن نبي يصفه بكونه “اقطاعا” من الاستعمار الفرنسي لعميله الاثير قدور بن غبريط، علما بأن هذا النقل يأتي عشية زيارة الرئيس تبون المرتقبة لفرنسا.

إن مسجد باريس، كصرح حضاري، هو في حقيقة أمره تحفة معمارية مغربية أصيلة، تم بناؤها على صورة جامع القرويين بفاس، وساهم المغاربة جميعهم وبمختلف شرائحهم ومستوياتهم في تمويل بنائه بموجب اكتتاب فرضته عليهم السلطات الاستعمارية وسماه بعض الوطنيين من باب السخرية “غرامة بن غبريط “، وقد تولى بناؤه ازيد من 500 من المعلمين والصناع المغاربة المهرة المنحدرين من فاس وايضا من مكناس، وافتتحه سلطان المغرب مولاي يوسف شخصيا، وأم الناس به وخطب فيه العلامة المغربي المعروف أحمد السكيرج، لكن بمجرد اكتمال بناء المسجد وانتهاء مراسم تدشينه سنة 1926، تنكرت السلطات الفرنسية للمغاربة وانفردت بتسييره وتسخييره لخدمة أهدافها الاستعمارية السياسية والايديولوجية، في المغرب والجزائر وسائر البلاد الإسلامية.

هكذا أسندت فرنسا الاستعمارية عمادة المسجد وتدبير شؤونه في مرحلة أولى (من 1926 الى 1954) لأحد أكبر عملائها وجواسيسها المنحدرين من الجزائر، قدور بنغبريط، ومن بعده لأحد كبار”الحركيين” الخونة، المنحدرين من الصحراء الشرقية المغربية المحتلة، ألا وهو حمزة بوبكر البوشيخي (من 1957 الى 1982)، ثم سلمت استغلاله والاشراف على ادارته في نهاية المطاف لمخابرات العسكر، وذلك بغض النظر عن الأسماء الظاهرة في واجهة عمادته مذاك، تماما كما سلمت أقاليم التل الجزائري في الشمال ومعها الصحراء الشرقية المغربية المحتلة لنظام الكابرانات سنة 1962 تحت مسمى “الجزائر المستقلة”.

 انه لتبيان دلالة هذه التعيينات يتعين التذكير بوصف وثائق وزارة الخارجية الفرنسية العائدة لهذه الفترة قدور بن غبريط (1868 ـ 1954) بأنه كان “من أكثر مخبريها العرب ثقة”، وهذا الشخص يمكن وصفه ببساطة بأنه الشخص الذي لعب دورا أساسيا في احتلال المغرب وقضم أجزاء كبيرة من أراضيه، فقد تم تعيينه ابتداء من سنة 1892 مترجما مساعدا في اللجنة الفرنسية بطنجة، وفي سنة 1900 تولى منصب رئيس المفوضية الفرنسية بالمدينة المغربية نفسها، وشارك عام 1906 ضمن البعثة الفرنسية في مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي حسم مستقبل المغرب كمستعمرة فرنسية، وفي سنة 1902 عين عضوا في لجنة تعيين الحدود بين الجزائر الفرنسية والمغرب، وشارك سنة 1912 بصفته إطارا في وزارة الخارجية الفرنسية بفعالية في فرض نظام الحماية على المغرب وفي الضغط على السلطان لتوقيع العقد المتعلق بها، وقد عينه المقيم العام ليوطي لقاء هذه الخدمات في منصب رئيس البروتوكول السلطاني، ثم ترأس سنة 1926 المعهد الإسلامي المغربي في باريس، باسم المغرب، إلى جانب رئاسته لمسجدها، الذي دفن به سنة 1954 كما سبقت الإشارة، ومع الأسف فان هذا الشخص استغل كل ما تعلمه في المغرب أبان دراسته في جامعة القرويين لخيانته وطعنه في الظهر.

أما أهم المناصب التي شغلها حمزة بوبكر البوشيخي (1912ـ1985)، في ميدان خدمة المشروع الاستعماري، فهي تمثيله لدائرة الواحات في الهيئة الشريعية الأولى للجمهورية الفرنسية الخامسة من 1958 الى 1962 ورئاسته للمجلس العام لهذه الدائرة، وقد كانت السلطات الاستعمارية تعده، على غرار زميله الموريتاني في الهيئة المذكورة المختار ولد دادة، لقيادة مشروع انفصالي يتولى بموجبه رئاسة جمهورية تابعة لها في أرض الصحراء الشرقية المغربية، لولا تفضيل الجنرال دوغول في نهاية المطاف لتطبيق خطة مغايرة تم بموجبها ضم هذه الأرض لأقاليم التل الجزائري في الشمال وإخضاعها بالتالي لسلطة نظام الكابرانات، وقد تم ذلك ذلك بعدما التزمت له قيادة “جبهة التحرير” بضمان استمرار الجيش الفرنسي في إجراء التجارب النووية في منطقة الركان، وكذا مواصلة السلطات الاستعمارية استغلالها لخيرات المنطقة، فضلا عن ابقاء هذه المنطقة مفتوحة في وجهها للوصول الى مستعمراتها بمنطقة الساحل والعمق الافريقي بكل يسر وسهولة، ثم التزمت له أخيرا بتطويق المغرب من الجنوب والحيلولة دون وصوله الى الأراضي الموريتانية عبر تندوف.. وهكذا تم تعيين حمزة بوبكر عميدا لمسجد باريس.

ختاما وعلى سبيل الخلاصة فان قيام إعلام العسكر بنقل وقائع صلاة الجمعة من مسجد باريس ليس سوى محاولة مفضوحة للايحاء بملكية الجزائر لهذا المسجد المسروق من المغرب بكل ما حواه من فن عمارة مغربي أصيل، وذلك في أفق البحث من بين ثنايا “الذاكرة المشتركة” العزيزة على قلب تبون والكابرانات، عما يمكن أن يدل على “الهوية الجزائرية” للزليج والقفطان والجبادور والعمارية والصالون المغربي والبسطيلة وزيت أركان وكل الإبداعات الثراثية المرتبطة بفن العيش المغربي، ذلك أن فرنسا هي من علم بعض الفئات التابعة لها من الجزائريين كيف تسرق الثراث المغربي وتنسبه لنفسها، لكنهم أن هم عادوا إلى رشدهم وبحثوا بجد ومسؤولية بين تلافيف هذه الذاكر، وذلك ما نتمناه، فانهم لن يجدوا في باب المقارنة بين البلدين سوى مقولة الجنرال هوبير ليوطي، الذي عرف البلدين معا عن قرب وخبر أحوالهما من الداخل، حينما قال: “لم تكن الجزائر سوى ارض قاحلة بينما كان المغرب إمبراطورية تاريخية مستقلة”.

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar