الحرب الروسية-الأوكرانية.. المسيَّرات تفرض معادلة جديدة

أظهرت روسيا عدم كفاءة في مواجهة هجمات المسيَّرات الأوكرانية على موسكو، بينما صارت الغارات تتكرر في أوقات متقاربة، وتفرض معادلة جديدة في الحرب، لم تكن القيادة الروسية قد وضعتها في الحساب.

هناك عدة عناصر مهمة، برزت في هذا السياق. الأول قصر المسافة الزمنية بين هجوم أوكراني وآخر، التي بدأت تضيق منذ تاريخ أول محاولة في الأسبوع الأول من الشهر الماضي باستهداف مبنى الكرملين. وأنكرت كييف قيامها به، ولكن صحيفة “نيويورك تايمز”، كشفت الأسبوع الماضي مسؤولية أوكرانيا.

والعنصر الثاني تزايد عدد المسيَّرات المهاجمة، وفي الوقت الذي اقتصرت فيه الهجمات الأولى على ثلاث مسيَّرات، تبين أن قرابة 30 مسيَّرة شاركت في الهجوم الأخير في 30 مايو الماضي. واستيقظت موسكو على مشاهد وأصوات الحرب والانفجارات القوية، وتصاعد أعمدة الدخان، لأول مرة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، وتعرّضت المناطق المدنية في موسكو لثلاث هجمات بالمسيَّرات خلال 24 ساعة.

ثماني مسيَّرات على الأقل استهدفت العاصمة موسكو، وسبّبت إخلاء السكان من ثلاثة مبانٍ على الأقل. واستهدفت المسيَّرات حيّ روبليوفكا الفاخر، الذي تسكنه النخبة الروسية، بما في ذلك الرئيس فلاديمير بوتين.

وبحسب وزارة الدفاع الروسية، فقد تم تحييد أو إسقاط ثماني طائرات قبل أن تصل إلى هدفها، لكن بعض الحطام سقط على المنازل. وقال عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، إن شخصين أصيبا بجروح طفيفة.

ومن بين المصادر الأخرى، ذكرت قناة “بازا” على “تليغرام”، أن 25 مسيَّرة شاركت في الهجوم، وأفادت مصادر أخرى بأن العدد تجاوز 30 مسيَّرة. والعنصر الثالث هو التأكد من أن المسيَّرات من صناعة أوكرانيا، وهذا تطور مهم جداً في الحرب، التي يلعب فيها هذا السلاح دوراً أساسياً، خصوصاً على مستوى تبادل الهجمات بين العاصمتين.

وفقاً لآراء خبراء عسكريين نقلتها وسائل إعلام روسية وأوروبية وأميركية، فإن المسيَّرات من طراز “يو جاي ـ 22″، التي تنتجها شركة “أوكرجيت” الأوكرانية، و”بيفر” التي تنتجها شركة “أوكروبورونبروم”، وهي قادرة على الطيران بعيداً مع حمل القليل من المتفجرات.

والعنصر الرابع هو أنّ كييف باتت تمسك بورقة مهمة وثمينة، وهي إمكانية إلحاق الأذى بالمدن الروسية، وخصوصاً العاصمة موسكو، وما دامت قد تمكنت من الاقتراب من جدران الكرملين، فهي قادرة على الوصول إلى أي هدف آخر. ومن المعروف أن الكرملين يُعَدّ أكثر منطقة في روسيا تتمتع بالحماية الجوية، وتتوزع حول موسكو منظومات دفاعية أبرزها “أس 400″، التي يصفها خبراء عسكريون بأنها من بين الأفضل ضمن منظومات الدفاع الجوي. وهي نظام متنقل للدفاع الجوي قادر على كشف الأهداف الجوية على بعد 400 كيلومتر، والتصدي لـ80 هدفاً منها في وقت واحد من طريق توجيه صاروخين أرض جو لكل هدف.

رموز السيادة الروسية مهددة

اختراق الحواجز الأمنية المخصصة للدفاع عن الكرملين والساحة الحمراء، التي تشهد الاحتفالات الرسمية، يعني أن النيران الأوكرانية يمكن أن تضرب القصر الرئاسي أو أي مقر حكومي آخر، ما يهدد رموز السيادة الروسية ككل. وكان وصول طائرتين مسيَّرتين أوكرانيتين إلى مبنى الكرملين في 3 مايو الماضي حدثاً خطيراً بحد ذاته. صحيح أن روسيا أسقطتهما، إلا أنهما تجاوزتا عدة خطوط دفاعية منصوبة لحماية مقر الرئاسة، كذلك فإن حطامهما وقع داخل مبنى الكرملين.

عموماً تضرب روسيا طوقاً أرضاً وجواً وبحراً، وحتى في العالم الافتراضي، يقيها أي هجمات معادية، ما يفرض هذا التساؤل: كيف تجاوزت مسيّرات هذا الطوق ووصلت إلى قلب روسيا ومركز قرارها؟ هجوم 30 مايو أوصل الموقف إلى نقطة حرجة جداً، وهذا ما استدعى أن يعلق عليه الرئيس الروسي بنفسه، بعد أن استنكف منذ أسابيع عدة عن الخوض في مجريات الحرب، التي لم تحقق أهدافها ضمن المهلة المحددة.

وباعتبار أن الوضع وصل إلى درجة عالية من الخطورة حسب وسائل إعلام أجنبية، وأثار ردود فعل في الشارع الروسي، تدخّل بوتين لطمأنة شعبه، من خلال التقليل من حجم الهجوم وتأثيره، الذي قال عنه إنه ليس حدثاً. وضرب على وتر المخاوف التي بدأ يعيشها الروس، مشدداً على أن أنظمة الدفاع الجوي التي تم تركيبها في العاصمة تعمل “بشكل طبيعي ومرضٍ”، وذهب إلى حد مقارنة الحادث بالهجمات التي تعرض لها الجيش الروسي في عامي 2018 و2019 على قاعدة حميميم الجوية بسورية.

والملاحظ أن بوتين اتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالسعي لـ”ترويع روسيا” بـ”الأساليب الإرهابية”، زاعماً أن موسكو تكتفي بضرب أوكرانيا “فقط لاستهداف الجنود بدقة عالية”. وأضاف أن هجمات المسيرات كانت “بوضوح علامة على نشاط إرهابي”.

مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخايلو بودولياك وضع الهجوم في سياق آخر، عندما أعلن أن “الحرب داخل الأراضي الروسية بدأت بالفعل”. وكان قد سبقه إلى ذلك مؤسس “فاغنر” يفغيني بريغوجين، الذي اعتبر أنّ الغارة على الكرملين بداية الهجوم الأوكراني. إلا أن بودولياك نفى تورط أوكرانيا. ومع ذلك، فقد توقع “زيادة في عدد الهجمات”.

ومن المرجح أن كييف شرعت بحملة تهدف إلى إثارة الخوف، وتقويض الجيش الروسي قبل هجوم مضاد متوقع خلال وقت قريب. الولايات المتحدة التي تسلح أوكرانيا، ترفض مثل الدول الأخرى السماح باستخدام المعدات التي تقدمها إلى كييف على الأراضي الروسية، وأعلنت مرة أخرى أنها “لا تدعم الهجمات داخل روسيا”.

رد الفعل الدولي الوحيد المؤيد للهجمات جاء على لسان وزير خارجية بريطانيا جيمس كليفرلي، الذي وضع الهجمات الأوكرانية في سياق الدفاع عن النفس، وقال إن أوكرانيا لها “الحق المشروع” في الدفاع عن نفسها، ويمكنها “عرض القوة” خارج حدودها، لتقويض قدرة روسيا على نشر القوة في أوكرانيا نفسها.

الحرب تعود إلى روسيا

الحرب بدأت بالعودة إلى روسيا، هذا أبرز تعليق تناولته وسائل الإعلام الأجنبية، وهو تقدير لا يبتعد كثيراً عن مشاعر الروس، التي خلفتها الهجمات الأوكرانية على موسكو، بعد أن ألحقت أضراراً ببعض المباني، وأجبرت السكان على إخلاء منازلهم. وبالإضافة إلى المسيَّرات، شنّت مجموعة مسلحة روسية مناهضة لبوتين هجوماً على منطقة بيلغورود الروسية الحدودية مع أوكرانيا. وكتب المحلل السياسي الروسي عباس غالياموف، كاتب خطابات بوتين السابق، على “تليغرام”: “الغارة على موسكو عدلت إلى حد ما الوضع بين العاصمة وبيلغورود… لن يشعر سكان هذه الأخيرة بالإهانة الشديدة الآن، ولن يهتم سكان الأولى بدرجة أقل”.

يبدو أن أحد أهداف الهجوم، تحريك الشارع الروسي. ففي حديث للتلفزيون الأوكراني، قال عمدة كييف فيتالي كليتشكو، إنه يشعر بالقلق من الطريقة التي “يرتاح” بها الناس في موسكو، بينما تتعامل القوات الروسية بوحشية مع كييف. وهذا التصريح يوجه رسالة ذات بعدين: الأول دعوة المواطنين الروس للتحرك ضد الحرب. والثاني أن أوكرانيا قادرة على إلحاق أذى بالمدنيين الروس، رداً على ما يلقاه المدنيون الأوكرانيون.

وكان لافتاً أن بريغوجين تهجم في بيان صوتي مليء بالشتائم عبر قنواته على مواقع التواصل الاجتماعي، خص به وزارة الدفاع الروسية، ووجه توبيخاً علنياً للنخبة الحاكمة، التي حذرها من أنها لن تخسر الحرب فحسب، بل تقود الأمة أيضاً نحو ثورة مماثلة للثورة البولشفية في عام 1917.

والجدير ذكره أن استطلاعات الرأي داخل روسيا تؤكد أن الحرب تحظى بتأييد 75 في المائة من الروس، ولكن نسبة 25 في المائة غير مؤيدة فعلاً، وهي غير مكترثة، حتى إنها اعتبرت هجوم المسيَّرات على الكرملين أمراً يخص بوتين وحده. وإذا ما اتسع نطاق الهجمات في الفترة المقبلة، فإن هذه النسبة لن تبقى على موقفها، ومن المرجح أن تلتحق بها فئات أخرى، لم تتأثر حتى الآن بالعقوبات والخسائر البشرية الكبيرة على جبهات القتال.

وهناك بُعد آخر، هو أن الهجمات هي رسالة مساومة، فإذا توقفت موسكو عن شن هجمات بالمسيَّرات على مدينة كييف، فإن أوكرانيا ستتوقف عن الرد بالمثل، وتمتنع عن مهاجمة موسكو. الهجمات الروسية على كييف تحدث بانتظام، منذ أن بدأت روسيا باستهداف البنية التحتية المدنية بضربات جوية جماعية في الخريف الماضي.

حتى الآن يبدو أن بوتين ليس في وارد التوصل إلى أي نوع من التفاهمات في الحرب، وكان الرد بمزيد من القصف التدميري في الأماكن كافة، خصوصاً المراكز الحيوية، مثل ميناء أوديسا الذي ضُرب في اليوم الثاني للهجوم الأوكراني على موسكو. مهاجمة موسكو بواسطة مسيَّرات أوكرانية ليس تطوراً عادياً في الحرب، هو رسالة مهمة من قبل حلفاء أوكرانيا، فحواها أن النار لن تتأخر في الوصول إلى الداخل الروسي.

عن العربي الجديد بتصرف

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar