مكناس العريقة.. من مجد تليد إلى جماعة تكالبت عليها المحن “الحلقة الأولى”

 بمجرد ما تطأ قدمك مدينة مكناس، تشعر وأنك ترتمي في أحضان التاريخ  وعبق الحضارة المغربية الأصيلة، ويأخذك الحنين إلى ماضي عريق والى شعور بالمجد والعنفوان والقوة.. لكن هذه المدينة التي اتخذها السلطان مولاي إسماعيل عاصمة للبلاد في الفترة الممتدة مابين 1672-1727 م، بدأ نجمها في الأفول، وبعدما كان يتغنى بجمالها الشعراء و المؤرخون والعلماء ووصفوها بالروض والجنان، ها هي اليوم تئن تحت وطأة التهميش و سوء التسيير والتدبير والعشوائية وزحف الاسمنت على كل ما هو أخضر..

في محاولة لتطويق مشاكل العاصمة الاسماعلية ولفت انتباه المسؤولين لما ألت إليه أوضاع مكناس البهية، نورد حلقات عنها من إعداد عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية..

هذا ما تبقى من مكناس.. جدران وأطلال وضريح

بعد غياب طويل عن مدينة مكناس دام ما يقرب من نصف قرن، كانت العودة موجعة واللقاء صعب، وكانت الصدمة، بل الصدمات، قوية نظرا لما آلت إليه أحوال هذه المدينة العريقة من تدهور.

 كل شيء تغير، لكن في الاتجاه الذي لا يرضي أي غيور على هذه القلعة التي كانت، في يوم من الأيام عاصمة واحد من أقوى ملوك المغرب. وكانت المدينة آنذاك تمثل رمزا حقيقيا لهذه القوة ببناياتها الشامخة، والتجهيزات الرائدة التي كانت تتوفر عليها، والتي لم يتبق منها إلا أطلال الجدران والأسوار وضريح المولى أسماعيل وسجن قارة الشهير.

توسعت المدينة بشكل رهيب، وزحفت تلال الإسمنت المسلح والخرسانة على آلاف الهكتارات من أفضل ما يملكه المغرب من أراضي صالحة للزراعة، التي تحولت فجأة من ضيعات فلاحية شاسعة منتجة لأجود أنواع الخضر والفواكه والحبوب، إلى عمارات بئيسة، وأحياء شبه عشوائية آهلة بالسكان، في غياب أي مخطط من شأنه أن يساعد على التحكم في التوسع الحضري لهذه المدينة، ويحافظ على خصوصياتها الجغرافية وجماليتها، ويضبط قواعد النسيج العمراني بها.

ولتجسيد هذه الحقيقة، يكفي التذكير ب”الضجة” الكبيرة التي أثارتها، خلال شهر مارس ما قبل الماضي، تصريحات أحد أعضاء المجلس الجماعي للمدينة، وهو في نفس الوقت قيادي في الحزب الذي كان يسهر على تسيير شؤون العاصمة الإسماعيلية، أي أنه كان على علم تام بالوضعية المؤلمة التي وصلتها هذه المدينة عندما وصف المدينة ب “الخربة”، متهما “بعض المستشارين في المجالس السابقة بـالفساد”، وبأنهم “سببا في هروب مستثمرين جراء الابتزاز وطلب الأموال”(!!).

وشهد شاهد من أهلها، بل ومن أعماق خباياها كما قال أسلافنا الأولون. إنهم يفضحون بعضهم البعض، في محاولة يائسة لإبعاد التهمة عنهم. وهذا الاعتراف لوحده يكفي لتفسير ما آلت إليه المدينة. ربما لم تصل بعد إلى مرحلة الخراب، ولكن جميع المؤشرات تؤكد أنها تسير بخطى حثيثة ومتسارعة نحوه إذا لم تتدخل الجهات المسؤولة على الصعيد الوطني لتدارك الوضع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أما “المسؤولون” المحليون، فيبدو أنهم استأنسوا بهذا الوضع، ولطول فترة تعايشهم معه، أصبحوا يرون أنه وضع عادي جدا.

لا يهمنا محتوى هذه “الضجة” التي تبادلت فيها الأغلبية والمعارضة التهم، ولو بشكل مؤدب، ما دامت الأدوار مقسمة بين نفس المستشارين، لأن معارضة اليوم ستصبح أغلبية الغد، والعكس بالعكس، فهم يعرفون هذا جيدا ما داموا يتعايشون معه منذ العديد من السنوات. فالواقع الذي لا غبار عليه هو أن كل المستشارين داخل هذه المجالس مسؤولون عما حدث، وعما يحدث في هذه المدينة، سواء كانوا معارضين أو في الأغلبية.

 وحتى لا يقول أحد أننا نتجنى ونرمي الآخرين بالباطل، سنتطرق، في هذه الاستطلاعات، على سلسلة من الأوضاع الصادمة التي أصبحت عليها المدينة، مع التركيز على حصيلة المجالس السابقة بكل أنواعها، حيث لا فرق بين مكوناتها، وسنعطي الوقت الكافي للمجلس الحالي قبل الحكم على منجزاته والخدمات التي ينتظرها السكان، إن كانت هناك منجزات وخدمات فعلا على أرض الواقع.

شهادة عفوية في الوقت المناسب

تألمت كثيرا عندما سمعت ردة فعل مواطن مغربي يهودي من مدينة مكناس عند عودته إلى هذه المدينة بعد سنوات طويلة من الغياب. إنها شهادة عفوية مؤلمة بكل المقاييس، حيث أنه كاد أن يجهش بالبكاء.

 ملامح وجهه وحدها تعبر عن غضب ما بعده غضب من جراء الصدمات التي أصابته (هو أيضا) وهو يلاحظ مظاهر التقهقر التي وصلتها المدينة التي ولد بها وترعرع بين أحضانها.

على كل مسؤول مكناسي، وخاصة المنتخبون أن يستمعوا إلى هذه الشهادة بتمعن، لأنها نابعة بعفوية من شخص لا علاقة له بالأحزاب، ولأن ما أنطقه هي غيرته على مدينته، لا أقل ولا أكثر. فهو الآن يعيش حياة كريمة ومترفة في واحدة من أرفع المدن العالمية، وهي مدينة واشنطن. وكان بإمكانه أن لا يهتم بمصير المدينة التي ترعرع فيها، ولكن غيرته على مدينته أنطقته. ويتعلق الأمر برئيس فدرالية اليهود المغاربة بواشنطن، شارل دحان.

“جيت لمكناس. كتشوف مكناس كتبكي. كتشوف الصويرة كتطلع. كتمشي لمراكش كتطلع. كتمشي لتيفلت كتطلع. وكتمشي لمكناس كتهبط. حشوما. المغرب كله طلع. علاش خلاو مكناس يطيح، ومكناس هي قلب الفلاحة، خاصها تطلع اكثر من الآخرين… ما بقى والو في مكناس…”. يمكن الاستماع لهذه الشهادة المؤثرة في الفيديو اسفله:

تكمن أهمية هذه الشهادة العفوية في كونها تعبر عن الإحساس بالحكرة التي يحس بها سكان مدينة مكناس، حيث استطاع السيد شارل دحان أن يعبر بكلمات بسيطة عن الوضعية المزرية التي وصلتها العاصمة الإسماعيلية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والرياضية والثقافية.

الصدمة الأولى : أصلحوا هذا الشارع حالا أو غيروا اسمه فورا !!!

جرت العادة في بلادنا أن يبادر مسؤولو كل مدينة مغربية إلى اختيار أجمل الشوارع وأفضلها تجهيزا لتشريفها بحمل أسماء ملوك المغرب. وهكذا، عندما يسمع الإنسان أحدا يتحدث عن شوارع تحمل اسم محمد الخامس، أو الحسن الثاني أو محمد السادس، يعرف أنها من أجمل الشوارع، وأنها توجد كلها في أحسن الأحياء وأفضل المناطق بمدننا. كما أنها تحظى، طيلة فصول السنة، بعناية خاصة سواء من طرف المجالس المنتخبة أو من لدن السلطات المحلية.

وبما أن لكل قاعدة استثناء، فإننا نكاد نجزم أن الاستثناء الوحيد في هذه القاعدة هو مدينة مكناس، التي منحت اسم جلالة الملك محمد السادس لواحد من الشوارع الأكثر تهميشا، والأوفر حظا من الأتربة، والغبار، والحفر، والفوضى الناتجة احتلال الملك العمومي والتلاعب به.

الشرح المحتمل لهذه “الهفوة” هو أن بعض “المسؤولين” لم يعودوا ينتبهوا لأهمية ما تمثله رمزية التسميات التي تحملها الشوارع البئيسة لمدينتنا. ولكني شخصيا، كمواطن بسيط، وباعتباري من سكان واحدة من أعرق مدن البلاد، ومن موقعي المتواضع، لن أسكت عن هذه الوضعية. لذا أقولها بأعلى صوتي لمن يهمهم الأمر : “أصلحوا هذا الشارع حالا، أو غيروا اسمه فورا !!! وإذا تماديتم في تجاهلكم لهذه الوضعية غير العادية، فاختاروا له تسمية أخرى من فضلكم. لأنه، في وضعه الحالي، لا يليق به أن يحمل اسم ملك يعمل فوق طاقته ليرفع درجة بلادنا إلى مصاف الدول الكبرى، والذي يكن له الشعب المغربي كامل الاحترام والتقدير”.

الصدمة الثانية: ولا حديقة مفتوحة في المدينة

خلال الصيف الماضي، تجاوزت درجة الحرارة بمدينة مكناس 45، واستمر الحال في تصاعد لمدة عشرة أيام تقريبا من شهر غشت، كانت خلالها جهنم بلهيبها حاضرة ليل نهار بهذه المدينة. وقد أرغمت جائحة كورونا الساكنة على الدخول إلى منازلهم ابتداء من التاسعة ليلا، علما أن الليل هو الفترة الوحيدة التي يمكن فيها لسكان المدن الداخلية من اللجوء إلى الشوارع والساحات العمومية والحدائق والمقاهي بحثا عن القليل من البرودة، وهروبا من الحرارة التي تجمعها جدران المنازل (المبنية بالياجور) طيلة اليوم لتنفثها كالجحيم في الليل. أما في النهار فإن الملجأ الوحيد هو المسابح أو الحدائق العمومية.

بمدينة مكناس، وجد الناس أنفسهم مجبرين على التزام منازلهم ليل نهار، بما أن جائحة كورونا أجبرت السلطات على إغلاق المسابح نهارا وعدم الخروج ليلا، إضافة إلى كون المدينة لا تتوفر على أية حديقة عمومية مجهزة لاستقبال السكان. قد يبدو هذا التأكيد مبالغ فيه بالنسبة للبعض، بل إن بعض المسؤولين سينفجرون غضبا، ويدعون عكس ذلك. ولكن الحقيقة المرة هي أنه، طيلة أول فصل صيف عشته بهذه المدينة منذ عودتي إليها، لم أجد ولو حديقة واحدة مفتوحة أمام العموم بالعاصمة الإسماعيلية كلها.

فحديقة الحبول، التي استطاعت الإفلات من مقصلة لوبي العقار، مغلقة منذ مدة طويلة جراء أشغال لا متناهية ولا أحد يدري ما الهدف منها. أبوابها مغلقة منذ مدة ولا أحد يعلم متى سيتم فتحها. إذ لا يرى منها سوى أكوام من أغصان الأشجار والأتربة المتراكمة بجانبها. فما الهدف من هذه الأشغال التي حطمت فترة استمرارها كل الأرقام القياسية؟ هل يبحثون فيها عن الكنز المدفون، أم عن مناجم الذهب والفضة، أم عن آبار النفط والغاز الطبيعي؟ لا أحد يدري.

ولحد كتابة هذه السطور، ما زالت أبوابها مغلقة مع أنه لا حركة بداخلها. والمصيبة هي أنه لا أحد يشرح للناس ما يحدث، ولا متى سيتم فتح أبوابها أمام الزوار، علما أنها تمثل، رغم صغر مساحتها، المتنفس الوحيد والأوحد للمدينة بكاملها، وخاصة لساكنة المدينة القديمة وأحياء الروامزين، وسيدي عمر، وللاعودة…

بالأمس القريب، كانت حديقة الحبول حديقة حقيقية بورودها، وأشجارها ونباتاتها النادرة، وكان جزء مهم منها مخصص لمختلف أنواع الطيور والحيوانات… و فجأة، أصبحت مجرد مساحة مسيجة مغلقة لأسباب مجهولة.

حديقة الحب : “طاح الحب وطارو شقوفو”

أما حديقة الحب (يا حسراه)، المجاورة لمقر العمالة، فقد تحولت فجأة هي أيضا من تحفة رائعة كانت تستقبل العشاق، والباحثين عن الاستراحة وراحة البال، وكانت تمثل بالنسبة للتلاميذ والطلبة ملاذا مناسبا لإعداد دروسهم والاستعداد للامتحانات… تحولت من مساحة مليئة بالورود، والنباتات المتنوعة إلى مرتع للأزبال والأوساخ والأتربة والغبار، وملجأ للمشردين والبؤساء وبقايا البناء التي يتخلص منها بعض منعدمي الضمير من عمال الأوراش المجاورة.

طيلة فصل الصيف، لم تكلف المصالح المعنية نفسها عناء تخصيص ولو سطل واحد من الماء لري هذه الحديقة، كما هو الشأن بالنسبة لبعض الحدائق الصغيرة الأخرى، لتظل بذلك بئيسة، مهملة كما هو الحال بالنسبة لكل مرافق المدينة، فتحولت من جراء الإهمال إلى مجرد خراب يدمي القلوب.

حديقة “بانيو”: من جنة فوق الأرض إلى بيداء “خاوية على عروشها”

كانت حديقة “بانيو” بمنطقة دار أم السلطان بالمدخل الغربي للمدينة أجمل حديقة بالمغرب على الإطلاق، بزهورها النادرة، وبحيرات تعج بمختلف أنواع الأسماك المزركشة، وشلالاتها، ونقوشها الرائعة، وتضاريسها الجميلة، وجناح مخصص للحيوانات…  كانت جزءا من جنة الله سبحانه وتعالى فوق أرضه، مستحقة بذلك حمل اسم “الوادي السعيد” (la vallée heureuse)، لأنها كانت ممتدة على طول أحد الأودية المجاورة للمدينة، قبل أن تتحول سعادتها إلى مأتم، وتصبح صحراء بيداء “خاوية على عروشها”، مجرد خراب وقحط يدمي القلوب، ليحرم منها، ليس فقط سكان مدينة مكناس، بل حتى الزوار الذين كانوا يحجون إلى العاصمة الإسماعيلية للاستمتاع بهذه التحفة النادرة.

ويمكن مشاهدة بعض الصور من هذه التحفة على موقع غوغل بالبحث عن ” Jardin Pagnon Meknes”، نسبة لعالم الطبيعيات الفرنسي إيميل بانيون، الذي كرس حياته لإنجاز هذه التحفة. لا أعتقد أنه كان سيغامر بتكريس سنوات طويلة من عمره لإنجاز هذه القطعة الفنية لو أنه كان يعرف أن من سيأتون بعده سيساهمون، بإهمالهم، في تدمير كل شيء من طرف مسيرين لا هم لهم سوى خدمة مصالحهم الشخصية، ولو تطلب ذلك خراب تحف نادرة كان الأجدر بهم ألا يفرطوا فيها.

لا يمكن الحديث عن الحدائق بمدينة مكناس دون إثارة فضيحة منتزه بني امحمد، الذي ابتلع ميزانيات ضخمة قبل توقف الأشغال به منذ عدة سنوات لأسباب لا يعلمها إلا ذوي الحل والعقد بالمدينة. فلا الساحة المحاذية للسور الإسماعيلي بهذه المنطقة ظلت مفتوحة للعموم، ولا فرحة السكان بإنجاز حديقة جميلة اكتملت، ولا سكان المدينة استفادوا من هذه الميزانية الكبيرة، ولا هم فرحوا بهذا المشروع الترفيهي، علما أن مكناس لا تتوفر ولا على مشروع ترفيهي عمومي واحد، ما دام أن الحديقة الوحيدة الموجودة بالمدينة (حديقة الحبول) تضل مغلقة جل أيام السنة إن لم نقل كلها.

قبل انطلاق وتعثر هذا المشروع المنحوس، كانت هذه المساحة تستغل لتنظيم بعض الأنشطة مثل “التبوريدة”، أو إقامة أسواق موسمية بها، وكانت، على الأقل، فضاء مفتوحا على المآثر التاريخية للمدينة، ومجالا يستغله أطفال وشباب الأحياء المجاورة للعب كرة القدم وممارسة الرياضة … أما اليوم، فإنها عبارة عن مساحة مسيجة مهجورة، لا أحد يستفيد منها سوى المشردين… والطامة الكبرى، هي أن هذا المشروع متوقف منذ سنوات عديدة، وهذا معناه، أن الخراب أصاب حتى البنايات والتجهيزات التي تم بناؤها جراء تقادمها وإهمالها، وبالتالي ضياع كل تلك الأموال التي صرفت لبنائها.

وهكذا، فإن مقصلة اللامبالاة التي تعاني منها المدينة تتجلى بكل بشاعتها في فشل هذا المشروع الترفيهي الذي تطلب ميزانية ضخمة، تبخرت مع توقف الأشغال به، وتم طي الملف بطريقة مذهلة، حيث أنه لم يتم فتح أي تحقيق، ولا متابعة أي مسؤول عن هذه الفضيحة. وكأن شيئا لم يكن. وكأن القانون لا ينطبق على المسؤولين عن هذا المشروع.

ونظرا للموقع المتميز لهذا المنتزه المطل على شارع محمد السادس، فإن أعين أصحاب الشكارة ولوبي العقار تترقب الفرصة السانحة لإدخال الجرافات إليها، قصد تجريفها ودكها تحت وطأة الخرسانة والإسمنت المسلح…

سهب كيتان … الموقع الذي يسيل اللعاب

أما المنطقة التي تسيل لعاب أصحاب الشكارة والعديد من الطامعين، فهي سهب كيتان الممتد على طول وادي بوفكران، في موقع استراتيجي رائع، والذي يمكن اعتباره حزاما أخضر طبيعيا عازلا بين شطري المدينتين: القديمة والجديدة. فهو يشبه في أهميته وموقعه في كثير من الأوجه، وادي أبي رقراق بين الرباط وسلا. هذه المنطقة كلها عبارة عن “جنانات” في ملكية الخواص، كانت وظيفتها منذ عشرات السنين هي إمداد المدينة بالخصر والفواكه، وبالتالي، فهي مساحة فلاحية بامتياز في قلب العاصمة الإسماعيلية، وتمثل في نفس الوقت جزيرة خضراء صامدة وسط زحف العمارات والإسمنت المسلح.

يبدو  أن رخص البناء ممنوعة في هذا الحزام، وهذا قرار مهم لا بد من الإشادة به ودعمه ومساندة تطبيقه، على الأقل في انتظار أن يحن الله على هذه المدينة وأن يرزقها نصيبها من برامج التنمية التي تنعم بها بعض المدن دون أخرى، في تمييز غير مفهوم، وخرق واضح لمبدأ تكافؤ الفرص بين جميع مناطق الوطن.

لذلك، لا بد من دعم قرار المنع هذا، في انتظار مجيء مسؤول حقيقي يضع ضوابط صارمة للتحكم في توسع النسيج العمراني للمدينة، ويجعل من سهب كيتان مجالا إيكولوجيا متناسقا، ومتنفسا ما أحوج السكان إليه، وورشا سياحيا مذرا للدخل، وقاطرة للتنمية وخلق فرص الشغل…  سهب كيتان هو أمل المدينة في إرجاع الاعتبار إليها، شريطة حماية المنطقة من أطماع لوبي العقار.

لذلك، لا بد للمجتمع المدني المكناسي من التحلي بما يلزم من اليقظة لحماية هذا المجال الحيوي، والوقوف في وجه كل من تسول له نفسه الترامي عليه أو محاولة اقتحامه.

يستمد توجيه هذا النداء شرعيته من محاولات فعلية لاقتحامه، خاصة من الجهة الجنوبية، المقابلة للمطار العسكري، حيث بدأت بعض البنايات تنبت وسط هذه “الجنانات” بشكل أثار انتباه المكناسيين وحرك تخوفهم من أن تكون هذه الأوراش مجرد “طلقة في الهواء” لتجريب ردود فعل السلطات والمجتمع المدني على حد سواء قبل الانطلاق في اكتساح السهب بكامله. فكيف تمكن أصحاب هذه الأوراش من الحصول على رخص البناء بهذه المنطقة المحمية، أو التي ينبغي أن تكون فعلا محمية من أطماع الطامعين ؟

مدينة بدون حدائق

بناء على هذه المعطيات، يمكن تأكيد هذه الحقيقة المرة، وهي أن العاصمة الإسماعيلية لا تتوفر حاليا ولو على حديقة واحدة مفتوحة تستجيب لأبسط المعايير المعمول بها في هذا المجال. تخيلوا ولو للحظة، مدينة كانت بالأمس القريب عاصمة لجهة تضم أكبر وأغنى المجالات الغابوية بالمغرب، وتوجد عند سفح واحد من أكبر الخزانات المائية بالبلاد، ومبنية على مساحة من أكثر الأراضي خصوبة بالوطن، ومع ذلك، لا تتوفر على حديقة حقيقية أو منتزه يلجأ إليه الناس للترويح عن أنفسهم، وخاصة في فصل الصيف، حيث تفوق درجة الحرارة في بعض الأحيان 45.

والمصيبة بعينها هي أن هذه الوضعية لا تثير اهتمام أي “مسؤول”. وحتى المواطنون أصبحوا يرون في هذا الوضع الشاذ أمرا عاديا، ربما لأنهم فقدوا الأمل فيما هو أفضل واستسلموا للأمر الواقع أمام مسؤولين مصابين بالصمم والعمى. حيث أن أفواج “المنتخبين” تتناوب على كرسي المجلس البلدي بكل الأطياف السياسية، ليتضح في الأخير أن “أبناء عبد الواحد كلهم واحد”، كما يقال.

آش خاصك العريان…

بدأ المجلس البلدي الحالي أعماله بزراعة الورود في عدد من المدارات الطرقية.واختار أن يركز هذه الزراعة على المدارات المنتشرة على طول الطريق الممتدة من المخرج الشرقي للطريق السيار نحو وسط المدينة الجديدة (أو حمرية كما يسميها المكناسيون)، وصولا إلى المدار الطرقي أمام مقر العمالة، وبالضبط تحت شرفة مكتب السيد العامل. لماذا اختيار هذا المسار بالضبط ؟ هل باعتباره المقطع الطرقي الذي يسلكه الزوار القادمون من الدار البيضاء، الرباط أو فاس (ومن بينهم بعض المسؤولين من الدرجة المتوسطة) لإيهامهم بأن المدينة في أحسن الأحوال. إذا كان الأمر كذلك، فإن هذه العملية “مفروشة” ولن تنطلي على أحد.

فعلا، تطل واجهة مقر العمالة على ساحة جميلة ونظيفة، ومتميزة بإنارة قوية، يتوسطها محور دائري لتنظيم حركة المرور مزخرف بالورود والنباتات، يتم سقيها وتقليمها بشكل شبه أسبوعي، كما يتم تنظيف (تسييق) الساحة بانتظام بالماء. وتعتبر هذه الساحة أجمل موقع على الإطلاق بالمدينة وأكثرها نظافة وإنارة… وهذه حالة نادرة، بل استثنائية بالعاصمة الإسماعيلية !!!

فهل العناية بهذه الساحة بالضبط صدفة رغم أنها مجرد مجال للعبور لكونها محاذية فقط لوسط المدينة الجديدة، ولا تمثل نقطة أساسية يحج إليها السكان، أم أن الهدف منها هو إعطاء السيد العامل الانطباع الخاطئ بأن كل شيء على ما يرام، وأن المدينة كلها ورود ونظافة وأنوار، وهو ما يخالف تماما الواقع الرديء الذي تعيشه المدينة.

حقيقة أن واجهة مقر العمالة نظيفة وجميلة وتستفيد من إنارة جيدة، ولكن، تكفي إطلالة بسيطة على الجهة الخلفية لهذا المقر للوقوف على حقيقة ما تعيشه المدينة من حفر وأتربة متراكمة وغياب شبه تام للإنارة، كما هو عليه الحال بأزقة أبي الحسن المريني وبدر وغينيا التي تبدأ من الجدار الخلفي للعمالة. وهذه هي سياسة “التوجيهة” والنفاق والضحك على ذقون الناس ب”طاي طاي”. وهي حالة ينطبق عليها المثل الشعبي “نونو من القدام، وخوخو من الوراء”. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

حقيقة أن لا أحد يكره أن يرى مدينته كلها ورود وأزهار وبهجة، ولكن الأجدر بالمجلس أن يبدأ أولا وقبل كل شيء بالأساسيات التي طال انتظارها، أي ترميم الأرصفة، وإصلاح الإنارة وإطلاق الحدائق وملاعب القرب في الأحياء الشعبية لفائدة الأطفال والشباب.

 أما الورود، فيمكن لأعضاء المجلس أن يحتفظوا بها لتزيين مكاتبهم، خاصة وأنهم يعرفون جيدا أنها آخر ما يفكر فيه السكان، لأنها الآن بعيدة كل البعد عن أن تمثل أسبقية أو أن تكون من الأساسيات. فهذه الورود هي مجرد كمالية وطريقة بليدة من أعضاء المجلس لذر الرماد في العيون. وعلى هؤلاء أن يعلموا أنه، بعد مرور أكثر من نصف سنة على انتخابهم، ما زال السكان ينتظرون تطبيق وعودهم، التي يتمنى الجميع أن لا تكون هذه المرة، كاذبة كما هي العادة. وسنعود إلى هذا الموضوع بدقة أكثر في المقالات المقبلة والحلقات الاخرى..

ذ. عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar