مكناس العريقة… حرمان طلبة التعليم العالي من جل التخصصات (الحلقة السابعة)

بمجرد ما تطأ قدمك مدينة مكناس، تشعر وأنك ترتمي في أحضان التاريخ وعبق الحضارة المغربية الأصيلة، ويأخذك الحنين إلى ماضي عريق والى شعور بالمجد والعنفوان والقوة.. لكن هذه المدينة التي اتخذها السلطان مولاي إسماعيل عاصمة للبلاد في الفترة الممتدة مابين 1672-1727 م، بدأ نجمها في الأفول، وبعدما كان يتغنى بجمالها المؤرخون والعلماء ووصفوها بالروض والجنان، ها هي اليوم تئن تحت وطأة التهميش و سوء التسيير والتدبير والعشوائية وزحف الاسمنت على كل ما هو أخضر..

في محاولة لتطويق مشاكل العاصمة الاسماعلية ولفت انتباه المسؤولين لما ألت إليه أوضاع مكناس البهية، نورد اليوم حلقة جديدة عن الخصاص المهول في المعاهد العليا وواقع الجامعات والمدارس بهذه المدينة، وذلك ضمن حلقات عن مكناس العريقة من إعداد الأستاذ عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية..

التعليم: حرمان الطلبة من جل التخصصات في مدينتهم

في مجال التعليم، كانت المدينة تتميز بضخامة مؤسساتها، وجودة تعليمها، ونجابة أبنائها. ويكفي التذكير أن مكناس تتوفر على أكبر ثانوية بإفريقيا (مولاي إسماعيل، شيدت أيام الحماية) التي تستقبل آلاف التلاميذ (كانت داخليتها لوحدها تضم ما يقارب ألف تلميذ داخلي)، بجانب فضاءات شاسعة للدراسات الميكانيكية وحلبة حقيقية للرياضة، إضافة إلى واحدة من أكبر المؤسسات التابعة للبعثة الفرنسية بالمغرب (بول فاليري) والتي لا تشغل حاليا سوى حزء بسيطا من مرافقها وأقسامها، نظرا لقلة الإقبال عليها بفعل الظروف المزية للأغلبية الساحقة من سكان المدينة، حتى أن أعيان مدينة فاس يتحملون عناء التنقل لتسجيل أبنائهم فيها.

ويكفي التذكير بإحدى الخاصيات الفريدة التي تتميز بها منطقة مكناس/تافيلالت في هذا المجال، ويتعلق الأمر بالموهبة العجيبة التي وهبها الله سبحانه وتعالى لأبناء منطقة كلميمة/الرشيدية في مجال الرياضيات. ومع الأسف الشديد، لا أحد أعار هذه المواهب أدنى عناية. ففي الوقت الذي تهتم فيه الكثير من الجهات الرسمية وغير الرسمة بالغناء والرقص، وتنظم للمشاركين فيها مسابقات وجوائز تحفيزية، وترافقهم على درب الممارسة حتى الانطلاقة في الحياة العملية، تظل هذه المؤهلات الفكرية النادرة طي النسيان والتجاهل والتهميش… ربما لأن الأمر يتعلق بالمجال العلمي وليس بالرقص والغناء، ولأن أغلب هؤلاء النجباء ينتمون لعائلات فقيرة كما هو الشأن بالنسبة للمنطقة التي ينتمون إليها.

ما أحوج بلادنا إلى العناية بهذه المواهب، وبكل ما تستحقه من تقدير ودعم مادي ومعنوي. في هذا الإطار، هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح : ألا تستحق مدينة كلميمة، أو الرشيدية، التفاتة خاصة لتحويل إحداهما إلى مركز علمي رائد لمواكبة هذه المواهب وصقلها والارتقاء بها إلى أعلى ما يمكن الوصول إليه من مراتب، عوض إجيار هذه الأدمغة على الرحيل إلى المدن الأخرى لمواصلة تكوينها، مع ما يترتب عن ذلك من أعباء مالية إضافية للآباء، وهو ما يجبر من هؤلاء الشباب على مغادرة المدرسة لمساعدة والديه على توفير القوت اليومي للأسرة ؟ .

بمدينة مكناس جامعة “على قد الحال” (جامعة مولاي إسماعيل)، وحي جامعي وحيد منعزل عن كل الكليات، رغم أن النواة الأولى للجامعة انطلقت في العمل منذ 1982، قبل استقلالها عن جامعة سيدي محمد بن عبد الله سنة 1989. أما كلية الحقوق، فقد قرر المسؤولون بناءها على أطراف المدينة (على مشارف تولال)، بعيدة عن كل شيء، بما فيها وسائل النقل والمطاعم والمحلات التجارية، ويوجد بجانبها حي جامعي كبير، ولكن عملية البناء به توقفت منذ سنوات لأسباب لا يعلمها إلا الله، تماما كما هو الحال بالنسبة لمنتزه بني امحمد.

أما التجهيزات ووسائل العمل التي تجعل من الكليات كليات حقيقية ومؤسسات جامعية في المستوى المطلوب، فذاك موضوع نترك الخوض فيه للمعنيين المباشرين بهذا المجال … ونتمنى صادقين أن يتكلموا، وذلك أضعف الإيمان.

باستثناء مدرسة عليا وحيدة، (للفنون الجميلة والمهن ENIM) والمدرسة الوطنية للفلاحة (بنيت 1942)، وبعد سنوات من “التجرجير” واللامبالاة، تم، منذ ما يقرب من سنتين ونصف فقط، افتتاح المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير (ENCG)، التي ما تزال لحد اليوم مجرد لاجئة بأحد أجنحة كلية العلوم القانونية والاقتصادية. وتشير كل المعطيات إلى أن هذه الوضعية، التي من المفروض أنها مؤقتة، ستستمر إلى ما لا نهاية ما دام لا وجود لأي مشروع ملموس لبناء مقر خاص مستقل بهذه المدرسة، كما هو الشأن بالنسبة لنظيراتها بباقي مدن المملكة.

وبذلك، تظل مدينة مكناس محرومة من أغلب المدارس العليا والتخصصات، الشيء الذي يرغم شبابها على الهجرة إلى مدن أخرى لمتابعة دراستهم، مع ما يصاحب ذلك من مصاريف مالية لذويهم، علما أن العديد من هذه المدارس موجودة في العديد من المناطق، بما فيها المدن الصغيرة (المدارس الوطنية للعلوم التطبيقية كمثال)…

وحتى المؤسسات التي حملت مشعل التربية والتعليم بالمدينة طيلة عقود من الزمان وأعطت لهذا البلد العديد من الأطر العليا والكفاءات، بدأت جدرانها تتآكل من شدة الإهمال، كما هو الحال بالنسبة لثانوية مولاي إسماعيل وإعدادية علال بن عبد الله التي يشاع أن الجرافات تتربص بها لهدمها وبناء “شي تخربيقة” أخرى مكانها… فما ذنب طلبة المدينة حتى يرغموا على النزوح إلى مدن أخرى والسكن بها لمتابعة دراستهم عوض الاستفادة من تلك التخصصات في مدينتهم ؟

وإلى حدود منتصف الثمانينات من القرن الماضي، كان بناء كلية للطب مبرمجا بمدينة مكناس، ويقال أن القطعة الأرضية المخصصة لإنجاز المشروع كانت جاهزة تنتظر انطلاق الأشغال بها. وفجأة وبقدرة قادر، “طار” المشروع إلى مدينة فاس في وقت كانت فيه وزارة الصحة تحت مسؤولية وزير مكناسي (وطبيب أيضا). ويعتبر ضياع هذا المشروع ضربة موجعة للقطاع الصحي بالعاصمة الإسماعيلية، لأن بناء كلية للطب يعني إنشاء مستشفيات جامعية بالمدينة، وتأطيرها بأطر طبية مهمة وأساتذة مختصين ما أحوج المكناسيين إليها. وهنا أيضا، لم يتحرك أحد للدفاع عن المدينة وحقها المشروع في احتضان هذه الكلية…

لماذا حرمان مدينة مكناس من هذه المؤسسات؟، ما هو ذنب سكانها حتى يتحملوا عناء الهجرة والمصاريف الباهظة للتنقل إلى مدن أخرى بحثا عن الاستشفاء وكأنهم يعيشون في قرية نائية وليس في مدينة عريقة.

ذ عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar