مكناس العريقة… الجرح الذي يدمي قلوب كل المكناسيين (الحلقة العاشرة)

بمجرد ما تطأ قدمك مدينة مكناس، تشعر وأنك ترتمي في أحضان التاريخ  وعبق الحضارة المغربية الأصيلة، ويأخذك الحنين إلى ماضي عريق والى شعور بالمجد والعنفوان والقوة.. لكن هذه المدينة التي اتخذها السلطان مولاي إسماعيل عاصمة للبلاد في الفترة الممتدة مابين 1672-1727 م، بدأ نجمها في الأفول، وبعدما كان يتغنى بجمالها الشعراء و المؤرخون والعلماء ووصفوها بالروض والجنان، ها هي اليوم تئن تحت وطأة التهميش وسوء التسيير والتدبير والعشوائية وزحف الاسمنت على كل ما هو أخضر..

في محاولة لتطويق مشاكل العاصمة الاسماعلية ولفت انتباه المسؤولين لما ألت إليه أوضاع مكناس البهية، نورد حلقات عنها من إعداد عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية..

شركة سيكوم: العار

تمثل مأساة عاملات شركة سيكوم، دون منازع، أبشع هذه الحلقات وأكثرها ألما وكمدا وحسرة، حيث أنه لا يمكن الحديث عن مدينة مكناس دون إثارة هذا الجرح الغائر الذي يدمي قلوب كل المكناسيين الذين يعيشون يوميا أطوار هذا المسلسل الرهيب من المعاناة والاحتقار وهضم الحقوق البسيطة لبني آدم. وما يدمي القلوب والضمائر أكثر هي سياسة التجاهل و”النخال” التي اختارها المسؤولون المحليون والمركزيون للتعامل مع مطالب هذه العاملات.

 إنها وصمة عار وعيب و”حشومة” في جبين كل المصالح المعنية بهذا الملف، وفي مقدمتهم وزارة الشغل، لأن ما يحدث في هذه الشركة يدخل في صميم اختصاصاتها، ومع ذلك ظلت الوزارة المعنية لحد الساعة جامدة لا تتحرك لمساعدة العاملات على استرجاع حقوقهن، وكأن الأمر لا يهمها، علما أن الحلقات المرعبة لهذا المسلسل البئيس تتواصل منذ ما يقرب من 6 سنوات.

حقيقة أن الدولة تدخلت في وقت معين وقدمت دعما لا بأس به لمساعدة الشركة على الاستمرار في نشاطها حفاظا على مناصب الشغل، ولكن لا أحد يدري في جيب من سقط هذا الدعم. لذا، فالمطلوب الآن هو إجبار أصحاب الشركة على دفع مستحقات العاملات والجلوس مع ممثلاتهن لإيجاد حل ملائم لهذه المأساة، التي استمرت ما فيه الكفاية وخلفت ما يكفي من الضحايا.

حوالي 550 عاملة مشردة ومحرومة من أبسط حقوقهن، علما أن أغلبيتهن الساحقة اشتغلن بهذه الشركة لأزيد من 34 سنة، بعضهن بدأن العمل بها وهن مراهقات وأصبحن اليوم في سن متقدمة، ولا يعرفن شيئا آخر غير هذه الشركة، كل واحدة منهن تتكفل بعائلة كاملها مكونة، في المتوسط، من 6 أفراد.

وأمام حالة اليأس والإحباط، ابتعدت بعض العاملات عن الشركة وتخلين عن الجمل بما حمل، دون الحصول على أبسط ذرة من حقوقهن، بينما يعاني البعض الآخر من الأمراض المزمنة والخطيرة دون أية مساعدة أو دعم.

إنها كارثة بكل المقاييس ومأساة حقيقية يعيشها الشارع المكناسي بكل جوارحه. فالكل في المدينة يتألم لمعاناة هذه العاملات وهن يواصلن اعتصامهن بمقر الشركة. علاوة على الغضب والاشمئزاز، فإن أفظع ما يشعر به الإنسان هو الإحساس بالعجز أمام نكبة من هذا الحجم، وأمام استهتار الأطراف المعنية مباشرة وإمعانها في تعميق الجرح أكثر.

لن ندخل في تفاصيل هذه الفاجعة، ولكن يبدو أن الأمر يتعلق بعملية محبوكة بدقة شديدة ومكر شيطاني قصد التخلص من العاملات دون أن يثير ذلك فضول الجهات المختصة لفتح تحقيق في الموضوع. ولحد كتابة هذه السطور، مازالت هذه المعاناة مستمرة بكل حمولاتها وآلامها. وأمام صمود ضحايا الخبث والمكر وعزيمتهن على استرداد حقوقهن، يبدو أن فصولها ستتواصل إلى ما لا نهاية. ألا تستحق هذه الكارثة فتح تحقيق ومحاسبة الجهات التي تسببت فيها؟

يا وزير الشغل، لا نطلب منك تكليف نفسك عناء القيام بزيارة لعين المكان… استرح في مكتبك الفاخر المريح واستمع لواحد فقط من الفيديوهات العديدة المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تسرد فيها هذه العاملات الشجاعات عمق معاناتهن. استمع إليهن واستفد من مستوى وعيهن وطريقتهن البارعة في طرح المشكل، وأسلوبهن الراقي في الدفاع عن حقوقهن في إطار من الاحترام واللباقة والانضباط الكامل للقانون… استمع إليهن وهن يندبن حظهن التعيس الذي أسقطهن في كماشة القهرة والاحتقار، ورمى بهن بين أنياب مخلوقات مفترسة لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، ولا هم لها سوى امتصاص دم وعرق البسطاء الذين لا حول ولا قوة لهم، ولا منقذ يحميهم. لهن الله سبحانه وتعالى كما يؤكدن على ذلك في كل مناسبة.

وعلى بعض المسؤولين الكبار أن يستمعوا لهذه الصيحات ليتعلموا فن الخطابة والحوار وطرح الإشكاليات المعقدة في قالب بسيط وبهدوء عجيب، دون الانسياق مع مشاعر الغضب المشروع التي تنخر كيانهن.

من فضلك السيد الوزير، استمع لواحد من هذه الفيديوهات إذا كنت تريد فهم معنى “الحكرة” والظلم في كامل تجلياتهما. إذا استمع الإنسان لهذه العاملات ولم يبكي، فلا شك أنه عبارة عن تمثال مصنوع من حجر وفاقد لأبسط الحواس التي تميز بني آدم، وأنه مجرد كتلة من رخام بارد وجامد لا إحساس لها ولا شعور.

عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar