محمد الضو السراج يكتب: “برامج القنوات العمومية ..حديث الساعة”

في مقال نقدي تحت عنوان “برامج القنوات العمومية .. حديث الساعة”، أماط الصحافي والكاتب محمد الضو السراج اللثام على خلفيات وأسباب تدني مستوى الإنتاج السمعي البصري في القنوات العمومية المغربية “SNRT و 2 M” خلال شهر رمضان، وفشل لجان طلبات العروض في تنمية القطاع.

وأكد محمد الضو السراج الذي يعتبر من كبار الصحافيين والمنتجين الأوائل للتلفزة المغربية، والذي يمتلك رصيدا محترما من الانتاجات الثقافية الهامة، (أكد) على ضرورة إجراء تغيير جذري في تدبير الإنتاج السمعي البصري في القنوات العمومية، من خلال وضع استراتيجية واضحة تُركز على تطوير المحتوى ودعم المواهب الحقيقية، وخلق صناعة سمعية بصرية تلبي تطلعات المغاربة، وفي ما يلي نص المقال :

“النهار الزين كيبان من صباحو” مثل شعبي مغربي يناسب مستوى برامج رمضان في القنوات العمومية هذه السنة، وفعلا فالنهار الأول من رمضان ظهر العربون ولم يكن مفاجئا لنا. ففي كل رمضان ومنذ عدة سنوات كان عدد من الصحافيين والمهتمين ينتقدون الإنتاجات السمعية-بصرية في القنوات العمومية، من وجهة نظر مهنية وفنية، على أمل أن تؤخد انتقاداتهم بعين الاعتبار من جانب المسؤولين عن تدبير قنوات SNRT و 2m بالخصوص، ويتوقفوا عن إنتاج هذه التفاهات، وتطوير رؤيتهم للعمل الدرامي والكوميدي، ورفع مستوى الدوق العام كما تنص على ذلك بنود الخدمة العمومية في دفتر التحملات. وللأسف وصلت التفاهة في هذه القنوات الممولة من المال العام إلى مستوى شوف تيفي في إبداع تفاهة القاع، و التحجج بنسب المشاهدة، وفي القاع فليتنافس المتنافسون …

بعد هيكلة الإنتاج السمعي البصري في المؤسستين المذكورتين منذ حوالي 12 سنة أحدثت لجان تنظم طلبات العروض ضمن دفاتر التحملات التي دخلت حيز التنفيذ في أكتوبر 2012 وما تزال مستمرة، والكل يتذكر تلك البهرجة السياسية التي خلقها مصطفي الخلفي وزير الاتصال حينذاك، التي لم ينتج عنها سوي شرعنة الفساد في الإنتاج السمعي البصري، لقد كانت لجان طلبات العروض التي شرعنها الخلفي تتكون من أشخاص أغلبهم لاتجمعهم أي علاقة مباشرة بمهن الإنتاج، وقد تناوب عدد من الأشخاص، الذين يعينهم الرئيس المدير العام للSNRT، على عضوية هذه اللجان منذ تأسيسها، منهم مديرون يسيرون قنوات الشركة، مع العلم بأن تعيينهم لايخضع لأية شروط تحدد مثلا تجاربهم في المجال، وتهم هذه اللجان كلاً من القناة الأولى والقناة الثانية وقناة العيون الجهوية وقناة الأمازيغية، وفي جميع الأحوال يبقى القرار النهائي في يد الإدارة و هي التي تمنح وتمنع حسب معايير خاصة بها، وقد أثبتت التجربة أنها معايير خارج المنافسة الشريفة، رغم أن الرئيس المدير العام ينفي في تصريحاته تدخله في عمل هذه اللجان، وعلى كل حال السيستم خدام واللجان مجرد إطار شكلي، و قلة من أعضاءها كانوا نزهاء أو محايدين وهناك من كان منطقيا مع نفسه و قدم استقالته منها..

هذه اللجان هي التي أعطت الضوء الأخضر لانتاج ما شاهده المغاربة من تفاهات كوميدية ودرامية في هذه القنوات منذ 2013 إلى اليوم، إلا النادر الذي يتوفر فيه قليل من المهنية واحترام الجمهور.

وأغلب المغاربة لا يتذكرون أي من هذه الإنتاجات أو أنها قد تركت لديهم إحساسا بأهميتها، وكلها ركنت بعد البث الأول في قبو مظلم تحث غبار النسيان، رغم عشرات الملايين من الدراهم التي صرفت على إنتاجها منها مثلا 12 مليار سنتيم صرفت هذه السنة على إنتاج برامج رمضان.

وفي بادرة وحيدة واستثنائية قدم قضاة المجلس الأعلى للحسابات في عهد رئيسه السابق إدريس جطو تقريرا تشر في شتنبر 2019، أثار زوبعة سرعان ما تم إخمادها، خلص فيه المجلس بعد افتحاصه للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة إلى قضية مهمة، ماتزال تعاني منها وهي غياب وثيقة رسمية تحدد تحدد توجهات الشركة الاستراتيجية و الأهداف المرجو تحقيقها وتضمينها في مخططاتها.

كما تطرق  قضاة المجلس إلى ميزانيات صرفت على أعمال لم تبث وإلى الوضع القانوني للSNRT الذي لايزال غامضا منذ 2012 وهي السنة التي تم التخلي فيها عن الاستقلالية المالية للمؤسسة وإلغاء العمل بالعقد البرنامج  Contrat programme المنصوص عليه في قانون الاتصال السمعي البصري 77/03. والعودة إلى الوراء وإلى مسطرة النظام المالي القديم الذي كان يطبق سابقا قي RTM. وهو تخبط مالي وإداري يتعارض مع القانون المذكور. وللأسف فإن مسؤولية الوضعية الحالية تعود جزئياً إلى اختيارات حكومة بنكيران والوزير مصطفى الخلفي الذي خلف من ورائه وضعا ملتبسا أوصل المؤسسة إلى حالة بلوكاج، و لايمكنها أن تتطور إلا بتغيير كل النظام الحالي الذي ينخره الفساد والزبونية وعدم الكفاءة وخصوصا في مجال صفقات الإنتاج التي سارت بذكرها الركبان.

هذه الوضعية لايمكن أن تفرز إلا التفاهة و تردي المستوى الفني لمختلف الإنتاجات بعد أصبح الفوز بالصفقات العمومية هو الهدف الأول لشركات تنفيذ الإنتاج، وللوصول إلى ذلك هناك سيستيم يشتغل جيدا وهو لوبي إداري مصلحي له علاقة ببعض الشركات يسمح لها بالتلاعب بمضمون العقود بحكم السلطة التي يمتلكها مديرو القنوات وغالبا مايكون أحدهم ممثلا في لجنة طلبات العروض، ويمكن لأي متفحص أن يقارن مضمون بعض الإنتاجات مع العقود التمويلية الخاصة بها، وسيجد الفرق شاسعا سواء في الجانب التقني أو في المحتوي إلى غير ذلك من التفاصيل، التي تتكرر وتفرز عددا من التساؤلات التي ليس لها سوى تفسير واحد يعرفه الجميع.

وهناك حديث كثير عن أشخاص اغتنوا في ظرف بضع سنوات منهم شخص أعرفه جيدا كان متعدد “المواهب” ينتج المسلسلات والأفلام  والبرامج في الأولى والثانية وفي وقت واحد، ويصدر مجلة وينظم مسابقات، وكأنه يزرع بطاطا، كان يلبي الطلبات بسرعة و وضع نفسه في فترة من الفترات وصيا على كل من يكتب خبرا أو تعليقا يتعلق ب SNRT أو 2M، و حاليا هو مشغول ببناء الشاليهات بعد أن تراجعت أسهمه في بورصة لوبي الفساد ..

للأسف لم تتطور لدينا صناعة سمعية بصرية رغم أن الرئيس المدير العام كرر كثيرا بأن تجربة طلبات العروض ستفرز في النهاية صناعة سمعية بصرية، وهو مالم يحدث بعد مرور أكثر من عقد على العمل بطلبات العروض هذه التي أفرزت بامتياز صناعة التفاهة والفساد. فهناك عدد من الشركات المعروفة يقف من ورائها فلان و فرتلان، تعتمد بالأساس على التمويل العمومي الذي تقدمه ال SNRT و 2M لتنفيذ الإنتاج، تحتل مند عدة سنوات رأس القائمة في المستحوذين على الطرف الأكبر من الكعكعة رغم أن عدداً من إنتاجاتهم طيلة أزيد من عشر سنوات كان متدنيا في نسب المشاهدة حسب “معاييرها” المغربية.

المسؤولون المغاربة عن الإعلام السمعي البصري يتحدثون كثيرا عن الإعلام في جانبه التقني والمالي وهو أمر جيد، ولكنهم يغفلون مناقشة تطوير المحتوى، لأنهم لايملكون أية استراتيجية واضحة و متكاملة ومحددة في الزمن لتنمية القطاع، و أظن أن خلق عدد من القنوات كان انجازا متسرعا بل أصبح في الحالة المغربية عبئاً يصعب التخلص منه، لأنه لم يواكب إنشاءها تصور شامل لتنمية القطاع برمته وتطويره، بدل الوضع الحالي الذي أدى إلى جمود طال كثيرا و لم يعط سوى روائح أزكمت الأنوف.

التلفزيون ليس جديدا في المغرب فقد بدأ بث البرامج بعين الشق في 1954، ثم توقفت بعد حوالي سنتين، وفي 1962 تم إنشاء التلفزة المغربية التي شرعت في بث برامجها بكيفية مباشرة من الأستوديو  مع عيد العرش يوم 3مارس من السنة نفسها.  و في الفترة نفسها انطلق المصريون في وضع اللبنات الأولى لصناعة دراما وطنية غزت الدول الناطقة بالعربية كلها وماتزال، مستحوذة بشركاتها الكبرى في الإنتاج الدرامي وقنواتها المتعددة، علي الفضاء العربي برمته. كان لديهم تصور واستراتيجية واضحة من البداية و نجحوا في تحقيقها على الأرض وفي الفضائيات وفي الأنترنيت في زماننا هذا. في حين بقيت صناعة الدراما  تراوح مكانها في المغرب، بعد أن تجاوزنا السوريون ولحق بهم الإماراتيون والسعوديون والقطريون وغيرهم. واكتفينا في قنواتنا الرسمية بإنتاج و صناعة التفاهة والدوران في متاهة منذ 2013 تاريخ تكوين لجان طلبات العروض الحالية، في حين أننا نواجه اليوم تحديات جيوسياسية ومستهدفين في تاريخنا وهويتنا، وبدل أن نخفي رأسنا في الرمال لابد أن نواجه، ولو متأخرين، هذه التحديات بوضع استراتيجية واضحة وخلق صناعة سمعية بصرية فعلية موجهة نحو استلهام وقائع من تاريخنا بلادنا المبهر، وتعرف بتراثنا المتعدد والمتنوع و بفنوننا الموسيقية العميقة في وجدان المغاربة…وللأسف نلاحظ في مسيرة إعلامنا العمومي (السينما والتلفزيون ) الغياب الكلي لأحداث من تاريخنا القديم والحديث في برامج الدراما إلا في مناسبات رسمية، مثلا، ولا فيلم واحد أو مسلسل أنتج عن يوسف بن تاشفين أو يعقوب المنصور أو موحى اوحمو الزياني أو عبد الكريم الخطابي وغيرهم كثير، من قادة المغرب التاريخيين في المقاومة و الفكر والسياسة والثقافة والفنون …

بعد فشل و إفلاس سياسة لجن طلبات العروض التي استمرت 12 سنة وأسهمت في انتاج درامي أغلبه تافه وبدون قيمة فنية، وبعد أن عجزت هذه المؤسسات عن تلبية تطلعات المغاربة في تحقيق إعلام مهني واعي  يعرف بحاضرهم وتاريخهم وتقاليدهم وجغرافية وطنهم، هذا الواقع يفرض أن يغير مسؤولو هذه المؤسسات عاجلا اتجاه البوصلة و الخروج من المؤقت-الدائم وضبابية الرؤيا إلى آفاق أرحب ..

و يمكن للملاحظ المتمرس أن يسجل خلال هذا المسار الطويل، أن من أسباب العجز الذي تعاني منه الإنتاجات الدرامية، رغم الميزانيات الضخمة التي خصصت لها يعود بالدرجة الأولى إلى فشل بناء أسس صناعة متطورة في الإنتاج السمعي البصري كما وعد بذلك الرئيس المدير العام للقطب العمومي، ومن هذه الأسس :

الفشل في خلق أطر و أسماء وكفاءات وطنية محترفة في كتابة السيناريو، يمكن أن تطور نفسها بالممارسة والتكوين من أمثال عشرات الكتاب ومبدعي السيناريو في مصر على سبيل المثال ومنهم : أسامة أنور عكاشة أو بشير الديك أو وحيد حامد،وهؤلاء وغيرهم كبروا وتربوا وتدربوا واشتغلوا في القطاع الإعلامي العمومي المصري، و تحولوا إلى نجوم الإنتاج الدرامي في مصر والعالم الناطق بالعربية.

وبحكم احتكار الـ SNRT و2M للانتاج الدرامي فإنها لم تولي الاهتمام الواجب للتكوين المستمر والتدريب في مجالات صناعة الدراما وبالخصوص التكوين في إعداد و كتابة السيناريو والحوار، بحيث يبقى السيناريو حالبا هو الحلقة الأضعف وأحيانا بدون قيمة فنية في عدد من الإنتاجات المغربية، وفي كثير من الحالات يتم تغيير فقرات السيناريو والحوار حتى في أثناء مراحل التصوير… مع الإشارة إلى أن أغلب كتاب السيناريوهات في المغرب هواة يتعيشون من هامش هذه المهنة، يدبجون سيناريوهات على عجل، تعالج قضايا اجتماعية ممجوجة ومكررة  في كل موسم، فقضابا المغاربة ليست فقط مخدرات وجرائم وزوج طلق، وخيانات وغش وحب ودسائس .. إن انعدام التنوع في المضمون جعل الدراما المغربية ذات بعد واحد إلى درجة أصبحت فيها كل المسلسلات متشابهة. ومن الطبيعي في مثل هذه ألأوضاع أن تكون هناك رقابة ذاتية وإدارية وخطوط حمراء، و هي من أسباب عدم تطرق صناع الدراما من الخواص للقضايا الأكثر جرأة في مجتمعنا وهي قضايا لاتجرؤ شركات تنفيذ الإنتاج على الإقدام عليها تحسبا لعدم قبولها، ما سيحرمها بالتالي من المشاركة في اقتناص حصتها من كعكعة طلبات العروض، فأغلب كتاب السيناريو. في المغرب يلجؤون إلى العمل تحت الطلب وانتاج سيناريوهات “كور وعطي لعور” والأعور هو الجمهور المغربي الضحية المستهدفة، مع العلم أن السيناريو و الحوار الجيدان والإخراج الأجود هما أساس الإبداع الحقيقي و نقطة قوة أو ضعف الدراما سواء في التلفزيون أو السينما.

العنصر الثاني يتجلى في ضعف الرؤيا الإبداعية لدى المخرجين، وعدد من يعملون في إخراج الأعمال الدرامية المغربية غير متمرسين وبدون حمولة ثقافية وإبداعية و لا يمتلكون تجربة مهنية في المجال، وعدد منهم مجرد تقنيين، ماجعل الدراما في القنوات العمومية مهلهلة ومتخلفة و بلا روح، مقارنة بالإنتاج الدرامي في دول الشرق الأوسط. إضافة إلى مشاكل أخرى تقنية و موضوعية مرتبطة بالتمويل و بمستوى الممثلين وظروف الإنتاج وغيرها..

منذ دجنبر الماضي يجري الحديث في الوزارة الوصية عن دفاتر تحملات جديدة تعدها الحكومة كي تعوض دفاتر حكومة بنكيران، وفي غياب تواصل سياسي وإعلامي حكومي حول هذه الدفاتر، التي يتم إعدادها في شبه سرية، في غياب التشاور بشأنها مع المهنيين ونقاباتهم و جمعياتهم، ما يثير تساؤلات عديدة من جانب الرأي العام والمهنيين لأن هذه المؤسسات الإعلامية يمولها المواطن المغربي، ومن حقه أن يعرف تفاصيل الدفاتر الجديدة، حتى لايتكرر السيناريو نفسه الذي طبقة الخلفي في ربيع 2012، الذي لم يستشر في مناقشة دفاتره حتى مع مديري القنوات العمومية المعنيين بها، وهم الأشخاص نفسهم الذين  مايزالون في الكرسي نفسه وهم أدرى بهذه الحكاية وتفاصيلها..

وأظن أن من واجب الحكومة قبل عرض دفاترها الجديدة، أن تقدم للبرلمان والعموم جردا وتقييما لفترة قاربت 12 سنة من العمل بدفاتر الخلفي بما لها وما علبها ماهي إخفاقاتها ونجاحاتها ؟، حتى يعرف المغاربة كيف وأين صرفت ميزانيات ضخمة في التجهيز وطلبات العروض والتوظيف وغيرها، والجميع يعرف أن هذه الدفاتر لم تطبق تماما كما هي سواء في بنود الخدمة العمومية أو في إنشاء قنوات جديدة  منها، مثلا، قناة خاصة بالأنشطة البرلمانية التي كثر الحديث عنها في السابق.

ولقد شهدت الفترة السابقة في ظل هده الدفاتر و تدبيرها تراجع حضور القنوات العمومية في المشهد الإعلامي الوطني طيلة هذه السنوات نتبجة عوامل خارجية، منها مثلا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وموضوعية هي نتيجة الفشل التدبيري لعمليات الانتاج كما سبق الحديث عن ذلك، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن مدى التغيير المقترح في الدفاتر الجديدة وهل ستستمر المنهجية نفسها المطبقة في لجان طلبات العروض بكل سلبياتها التي اتبتت فشلها وأدت إلى هروب المواطن بحثا عن الأفضل .

نتمنى بجد أن تنجح التجربة الجديدة في تجاوز معيقاتها السابقة بعد أن تعودنا للآسف على المبادرات الفاشلة في هذا القطاع.

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar