مكناس العريقة.. الإهمال يطال أسواق ساحة الهديم والروائح العفنة تختلط بنكهات التوابل (الحلقة السادسة)

بمجرد ما تطأ قدمك مدينة مكناس، تشعر وأنك ترتمي في أحضان التاريخ وعبق الحضارة المغربية الأصيلة، ويأخذك الحنين إلى ماضي عريق والى شعور بالمجد والعنفوان والقوة.. لكن هذه المدينة التي اتخذها السلطان مولاي إسماعيل عاصمة للبلاد في الفترة الممتدة مابين 1672-1727 م، بدأ نجمها في الأفول، وبعدما كان يتغنى بجمالها المؤرخون والعلماء ووصفوها بالروض والجنان، ها هي اليوم تئن تحت وطأة التهميش و سوء التسيير والتدبير والعشوائية وزحف الاسمنت على كل ما هو أخضر..

في محاولة لتطويق مشاكل العاصمة الاسماعلية ولفت انتباه المسؤولين لما ألت إليه أوضاع مكناس البهية، نورد اليوم حلقة جديدة عن واقع الأسواق بساحة الهديم وحمرية، حيث تحولت إلى مزابل تختلط فيها اللوائح العفنة بنكهات التوابل، وذلك ضمن حلقات عن مكناس العريقة من إعداد الاستاذ عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية..

السوق المركزي بالمدينة الجديدة: الطعم الذي يغري لوبي العقارات

لا يمكن للإنسان إلا أن يتحسر عندما يرى ما آلت إليه بعض معالم المدينة من تدهور. وما الوضعية المزرية للسوقين البلديين بساحة الهديم وحمرية إلا مثالين بسيطين عن هذا الإهمال والتدهور. فالأول يعاني من الأوساخ والأزبال من الداخل والخارج حتى أن الزبناء يضطرون للمرور في بعض ممراته فوق بقع من الدماء المسربة من لحوم وأحشاء الذبائح، وحيث غبار وريش الدجاج يختلط مع اللحوم والحلويات والتوابل المعروضة للبيع نظرا لاختلاط المحلات التجارية المختلفة والتصاق بعضها مع بعض.

مكناس 4

أما الثاني، فإن الواقع الذي يعرفه لا يختلف عن الأول : تسربات لمياه الأمطار من السقف، جدران تتساقط أطرافها جراء البرودة والإهمال من الداخل. أما جنباته من الخارج فقد تحولت إلى مزبلة حقيقية بروائحها العفنة، خاصة في زنقة أبي الحسن المريني، الملتصقة مع مقر العمالة (يا حسراه)، والتي تحولت إلى مرتع للقمار والسكر العلني، ومطرح للنفايات والحفر وركام الأتربة، لدرجة أصبح العديد من الناس، وخاصة النساء، يتفادون المرور منها حتى لا يسمعون الكلمات النابية والمصطلحات الخادشة للحياء. أما جدرانه الخارجية، فإنها تتآكل من كثرة البرودة والتبول عليها وتراكم حاويات الأزبال، شأنها في ذلك شان سطح السوق الذي فقد جزء مهما من غطائه الإسمنتي لدرجة أصبح حديد خرسانتها باديا للعيان عن بعد.

أبو الحسن المريني، هذا السلطان الذي وصفه الناصري في الاستقصا بكونه “أفخم ملوك بني مرين دولة، وأضخمهم ملكا، وأبعدهم صيتا، وأعظمهم أبهة، وأكثرهم آثارا بالمغربين والأندلس”، لا بد أنه يتحرك الآن في قبره من شدة حسرته على وجود اسمه متدحرجا بين لاعبي القمار والسكارى والأوساخ والأزبال.

من المفروض عند الدول التي تحترم مواطنيها أن يحظى السوق المركزي لكل مدينة بالحد الأدنى من العناية والنظافة نظرا لكونه مجالا لعرض المواد الغذائية بكل أشكالها، فذلك يعتبر من المسؤوليات الأساسية للمصالح الصحية بكل مدينة والتي لا ندري هل هي موجودة بمدينة مكناس أم لا. وهذا بالضبط ما يفتقده السوقان المركزيان بمكناس، وخاصة السوق البلدي لحمرية رغم تواجده في واحدة من أكثر المواقع استراتيجية في قلب المدينة الجديدة، حيث يحده من الجنوب شارع الحسن الثاني، ومن الشمال مقر العمالة.

ربما أن الصبغة الاستراتيجية لهذا الموقع هي سبب خرابه. وبما أن هذا الإهمال فاق كل الحدود، فلا مناص من دفع البحث في هذا الاتجاه لأن بعض التأويلات تذهب للقول بأن الهدف من تجاهل حالة السوق وهو يتعرض للدمار، هو إعداد الرأي العام لمسحه من النسيج العمراني وتعويضه بمشاريع أخرى أكثر ربحا لأصحابها. فهل هذا الإهمال مجرد وجه من أوجه الاستهتار الذي تعاني منه المدينة بكاملها أم له فعلا خلفيات وأهداف خفية مادية محضة ؟.

يطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح في خضم الإشاعات التي تدور حاليا والتي مفادها أن أعين بعض المقاولين العقاريين تتربص بالسوق لهدمه وتجزئته إلى جزأين : بناء فندق على أنقاض الجانب المخصص منه لسوق السمك، وتشييد عمارة من 10 طوابق على ما تبقى منه، مع طابقين تحت أرضيين لركن السيارات.

لذا، على كل الغيورين على مدينة مكناس أن يأخذوا هذا السيناريو على محمل الجد، ما دام أن كل شيء ممكن هنا. فقد سبقته سيناريوهات كان البعض يظنها مستحيلة قبل أن تتجسد على أرض الواقع دون أن يثير ذلك تدخل  أي أحد. من بين هذه السيناريوهات على سبيل المثال:

  1. تحويل مدينة مكناس من عاصمة جهة إلى قرية كبيرة تابعة لولاية فاس، مع ما صاحب ذلك من ترحيل لمرافق إدارية أساسية إلى مدينة فاس بموظفيها ورواتبهم التي كانت تساهم في الترويج الاقتصادي للمدينة، إضافة إلى المساهمة في تفقير العاصمة الإسماعيلية في العديد من المجالات، وخاصة في قطاعي الصحة والتجهيز؛
  2. توجيه توسعة النسيج الحضري نحو طريق أكوراي، أي نحو أفضل منطقة فلاحية محيطة بالمدينة، في وقت تتوفر فيه المدينة على أراضي شاسعة أقل خصوبة في اتجاه مولاي ادريس أو سبع عيون مثلا؛
  3. الغياب شبه التام لأي أثر للمساحات الخضراء وفضاءات للعب الأطفال والشباب، خاصة بالأحياء الجديدة والتي تمثل أكثر من نصف مساحة المدينة، مع إغلاق الحديقة الوحيدة (الحبول) التي تتوفر على المواصفات الضرورية لذلك، والإهمال التام لحديقة الحب والتخلي، دون حساب ولا عقاب، عن منتزه بني امحمد مع ضياع الميزانية الضخمة التي ابتلعها ؛
  4. بناء عمارتين على أنقاض قاعتين رائعتين للسينما وإغلاق باقي دور السينما، ليتم بذاك وأذ المشهد الثقافي بالمدينة بشكل شبه تام ؛
  5. إذا ما أضفنا إلى ذلك الانهيار المفاجئ والكامل للمجال الرياضي في جميع المجالات دون أن يثير ذلك تدخل الجهات المسؤولة، لا المحلية منها ولا الوطنية، فإننا نجد أنفسنا أمام حالة نادرة ومؤلمة تتجلى في فقدان المدينة لكل أنواع الفرجة وإغلاق كل متنفس لسكانها، وخاصة منهم الشباب. بل حتى الفرجة البسيطة التي كان يوفرها “حلايقية” ساحة الهديم، لم تعد موجودة. ولكم حرية تصور الحالة النفسية لسكان مدينة كبيرة مكدسة بدون أي شكل من أشكال الفرجة، دون حدائق، في غياب شبه كلي للأنشطة الثقافية، مع إنارة ضعيفة وغائبة في العديدة من الأحيان، وأزقة بدون أرصفة وبطالة ضاربة أطنابها في أوساط الشباب…
  6. إعادة ترميم جميع محطات القطار بكل المدن المغربية، بل حتى ببعض المدن الصغيرة والقرى، إلا مدينة مكناس وحدها تم استثناؤها من برنامج المكتب الوطني للسكك الحديدية، دون أن يتساءل أحد لماذا، علما أن المحطة الرئيسية للقطار بالمدينة كانت تمثل إلى حدود السنوات الأخيرة ثاني أكبر محطة بالمغرب ؟ هل هذا الاستثناء هو نتيجة للنسيان، أم للتهميش الذي تعودت عليه المدينة، أم صيغة جديدة لاحتقار سكانها؟ على السي لخليع ووزير النقل اختيار الجواب الملائم.

أما سوق الجملة للخضر والفواكه، المحاط بمزابل مرعبة ومطارح للقمامة والبقايا المتعفنة لمختلف المنتوجات الفلاحية، والتي تتحول في فصل الشتاء إلى مستنقعات “خامجة” ونتنة تحت نوافذ سكان العمارات الآهلة المجاورة، فإنه فضيحة جديدة تحتاج لوحدها لاستطلاع مفصل.

ذ. عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar