مكناس العريقة.. من المجد إلى جماعة تنبت فيها التجزئات السكنية كالفطر (الحلقة الرابعة)

بمجرد ما تطأ قدمك مدينة مكناس، تشعر وأنك ترتمي في أحضان التاريخ  وعبق الحضارة المغربية الأصيلة، ويأخذك الحنين إلى ماضي عريق والى شعور بالمجد والعنفوان والقوة.. لكن هذه المدينة التي اتخذها السلطان مولاي إسماعيل عاصمة للبلاد في الفترة الممتدة مابين 1672-1727 م، بدأ نجمها في الأفول، وبعدما كان يتغنى بجمالها المؤرخون والعلماء ووصفوها بالروض والجنان، ها هي اليوم تئن تحت وطأة التهميش و سوء التسيير والتدبير والعشوائية وزحف الاسمنت على كل ما هو أخضر..

في محاولة لتطويق مشاكل العاصمة الاسماعلية ولفت انتباه المسؤولين نتطرق اليوم لموضوع التجزئات السكنية والعمارات الشاهقة التي تنبت كالفطر على حساب المساحات الخضراء، ضمن الحلقة الرابعة من حلقات حول مكناس من إعداد الأستاذ عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية..

صفر مساحة خضراء

تتميز المدينة الجديدة بعدد كبير من الفيلات والمنازل والعمارات المهجورة موزعة على كل الأحياء، تحول أكثرها إلى ملاذ آمين للمشردين ومطارح تتكدس فيها الأزبال والنفايات ومخلفات الأوراش التي تحيط بها.

 كما أن العمارات الشاهقة (معدل ثمانية طوابق) تنبت بشكل هستيري في المدينة، حيث يكتفي المقاول بوضع حواجز من القصدير حول الورش، في منظر مقزز ومثير للاشمئزاز، قبل إدخال الجرافات للحفر وإثارة زوابع من “صداع الراس” والغبار وسط منازل آهلة بالسكان، ومحلات تجارية ومطاعم ومؤسسات تعليمية وغيرها. والمؤلم حقا أن هذه الحواجز القصديرية البئيسة تحتل ما يشبه الأرصفة لترغم المارة على المغامرة بسلامتهم وأرواحهم على قارعة الطريق وسط السيارات. ويمكن أن تظل الأوضاع على هذا الحال مدة سنين طويلة، دون أن يتدخل أحد لإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي. وكأن جمالية المدينة وراحة المواطنين وسلامتهم أمر لا يهم أحدا في هذه المدينة.

meknas

تمنح الجهات المعنية، من وكالة حضرية ومجلس جماعي، رخص التجزئة والبناء لأحياء مترامية الأطراف دون أن تفرض عليها توفير الحد الأدنى من المساحات الخضراء أو مساحات فارغة بسيطة يلعب فيها الأطفال. إذا كانت هذه هي رغبة أصحاب التجزئات، ما دام همهم الوحيد والأوحد هو استغلال كل سنتميتر مربع لملء شكارتهم وأرصدتهم البنكية، فإن هناك قوانين تجبرهم على تخصيص أجزاء محددة من كل تجزئة كمساحة خضراء أو ملاعب للأطفال. ولكن، يبدو أن المسؤولين على دراسة الملفات قبل تسليم رخص التجزئات والبناء خارج التغطية، وأن آخر ما يفكرون فيه هو رفاهية السكان وجمالية المدينة.

 وإلا، فكيف يشرحون الغياب شبه التام للمساحات الخضراء وأماكن الترفيه في الأغلبية الساحقة لأحياء المدينة، وخاصة الأحياء الجديدة، وما أكثرها. فعلى طول المساحة الممتدة من ساحة الهديم حتى الطريق السيار على طريق أكوراي، يصعب على الإنسان وجود حديقة أو مكان مجهز للعب الأطفال، ما عدا ما يوفره بعض الخواص الذين يعرضون استعمال هذه المساحات القليلة جدا مقابل المال.

لذلك، يبدو جليا أن القاعدة التي يعتمد عليها المشرفون على تسيير شؤون المدينة هي : “صفر مساحة خضراء. والإسمنت ولا شيء غير الإسمنت”، الذي يزحف على الأخضر واليابس.

مكناس 1

وحتى الأغلبية الساحقة من الأزقة داخل الأحياء الجديدة يتم تضييقها إلى الحد الأدنى، الشيء الذي يساهم في خلق مشاكل كثيرة بين واجهتين من العمارات: حوالي أربع طوابق في المعدل لكل عمارة بالأحياء الشعبية وثمانية بالمدينة الجديدة. فإذا ما نزعنا المساحة المخصصة لما يشبه الرصيف، وأخرى لوقوف السيارات من كل جانب، تتبقى مساحة تكفي بالكاد لمرور سيارة واحدة، في حين أن هذه الأزقة مهيأة لضمان حركة السير في الاتجاهين، وهو وضع يخلق صعوبات ومتاعب بالجملة لمرتادي هذه الأزقة.

 كما أن ضيق هذه الأرصفة يخلق مشاكل صحية للسكان، حيث أن الشمس لا يمكن أن تصل إلى الطابقين السفليين، نظرا لارتفاع العمارات المقابلة. هذا الوضع وحده يبرز حجم جشع المقاولين وشراهتهم، لدرجة يبدو معها أنه لو كان بإمكانهم حذف الأزقة تماما لما ترددوا في القيام بذلك.

فقرة

هذا هو الحال في كل الأحياء الجديدة، وما أكثرها وليس آخرها المنصور، وكاميليا، ومرجان، والزيتون، وحي السلام، والمنزه، ووجه عروس، والزرهونية، والزهوة، وسيدي بوزكري… وغيرها من الأحياء التي تنبت كالفطر وسط غابة من الإهمال واللامبالاة… فما الذي يمنع من تصميم أزقة واسعة، ومساحات خضراء، وملاعب للأطفال وحدائق تكون بمثابة متنفس يستفيد منه السكان، ما دام أن ثمن هذه المساحات تتم إضافته لثمن المساحات المبنية الذي يؤديه المواطن عند شراء سكنه ؟ أليست هذه خطايا، بل جرائم في حق المدينة ؟

أمام هذه الوضعية الغريبة، يحق لنا أن نتساءل: ما السر وراء هذه “التساهلات” ؟ وهل تتوفر المدينة على مخطط مديري ؟ وما هو دور الوكالة الحضرية والمصالح البلدية إذا لم تسهر على محاربة هذه الخروقات؟ وأين هي مصالح الوزارات الوصية ؟

مسلسل التساهل هذا هو الذي سمح بهدم معلمتين حقيقيتين من معالم المدينة، في غفلة من الزمان وتحت أعين المسؤولين، وبناء عمارتين على أشلائهما. ويتعلق الأمر بسينما الأمبير وسينما الريجان (بالمدينة الجديدة)، التين كانتا من أجمل دور السينما بالمغرب، نظرا لجماليتهما المعمارية وروعة تصميمهما، وهو عكس ما يحدث ببعض المدن التي تزخر بالبنايات التي خلفتها سلطات الحماية المقيتة، كما هو الشأن بالنسبة لمدينة الرباط، حيث يمنع المساس بها أو تغيير أشكالها وتصاميمها، بل هي الآن في طور عملية ترميم رائدة، في إطار برنامج الحفاظ على الموروث الاستعماري، لأنه يعتبر، في جميع الأحوال، غنيمة لمرحلة من المراحل المؤلمة لبلادنا.

أما مدينة مكناس، فإنها غير معنية بهذا النوع من البرامج الهادفة إلى تثمين المآثر العمرانية، والحفاظ عليها، ولو كانت في قمة الروعة، علما أن المدينة الجديدة بكاملها شيدتها سلطات الحماية بشكل هندسي جميل للغاية، كما يدل على ذلك المقر المركزي للبريد وقصر البلدية وبعض دور السينما بوجه خاص… ذلك أن جرافات لوبي العقار لا تعترف بالجمالية المعمارية  لهذه المعالم باعتبارها تراثا نفيسا لا يختلف في رمزيته عن مآثر وليلي أو مدينة ليكسوس الأثرية بالعرائش، أو المسقاة البرتغالية بالجديدة أو القلاع والأبواب التاريخية بالصويرة…

بمدينة مكناس، خلفت سلطات الحماية المدينة الجديدة بكاملها، وهي مساحة شاسعة جدا من البنايات الجميلة تشمل أنواعا راقية من التصاميم الهندسية (Art nouveau, Art déco). ومع ذلك، فإن هذه الثروة العمرانية لم تشفع للمدينة ولم تكن كافية لإثارة انتباه المسؤولين، لا المحليين منهم ولا المركزيين. لتظل هذه المآثر في عين العاصفة، وتحت رحمة مقاولين لا يفقهون شيئا في أهمية هذا التراث، ما دام همهم الوحيد هو المال وبناء عمارات هجينة لا جمالية لها ولا أصالة، والتي تبدو بئيسة وتافهة مقارنة مع ما يجاورها من بنايات عهد الحماية التي لازالت الجرافات لم تصلها بعد.

هدم

وفي السنة الماضية، كادت الجرافات أن تجرف معلمة ثالثة (سينما الأطلس بحي الروامزين) لولا الوقفة الشجاعة لجمعيات المجتمع المدني التي أجبرت المسؤولين المحليين على التدخل في الوقت المناسب لتفادي هذه الجريمة، بناء على حكم المحكمة التجارية بمكناس، التي قررت وقف المزاد العلني الذي كان مقررا إجراؤه يوم الخميس 22 أبريل 2021، من أجل البيع القضائي لهذه القاعة السينمائية.

والكل هنا يعرف أن المصير المحتوم لهذه السينما وكذا سينما أبولو ومونديال هو مسألة وقت فقط، قبل هدمها وبناء عمارات بئيسة مكانها، عوض إصلاحها ووضعها رهن إشارة شباب المدينة للقيام بأنشطة ثقافية وترفيهية، بدل إجبارهم على احتلال طاولات المقاهي، علما أن المشهد الثقافي بالمدينة مقتول، وموءود ومصاب بالشلل شبه التام. فلا مسرح يشتغل، ولا دار سينما واحدة مفتوحة، ولا أنشطة ثقافية، حيث أن الشباب والمثقفين متروكين لمواجهة مصيرهم بإمكانياتهم الذاتية المحدودة، ولجوء أغلبيتهم للمركز الثقافي الفرنسي باعتباره من المراكز القليلة التي توفر الحد الأدنى للأنشطة الثقافية بالمدينة.

ذ. عبد القادر لبريهي، صحافي ومهتم بالشأن السياسي والجماعات الترابية

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar