طنجة.. عروس الشمال التي نسجت حولها الحكايات الجميلة

طنجة أو عروسة الشمال المغربي كما يحلو لأبنائها والمغاربة قاطبة تسميتها، تتقدم القارة الأفريقية لتكون أول مدينة تلامس أوروبا ولا يفصلها عنها سوى كيلومترات قليلة، حتى أن المتأمل يستطيع أن يشاهد حركة السيارات وسطوح المباني في إسبانيا انطلاقا منها.

طنجة نسجت حولها الكثيرة من الحكايات الجميلة والهادئة، كما ارتبطت بأسماء أعلام مغاربة ومن كل العالم، ولا يمكن الحديث عن عاصمة البوغاز بدون أن تقف شامخة ذكرى ابن بطوطة، الرحالة العربي الأشهر.

إلى جانب ابن بطوطة القادم من التاريخ القريب، تنسل ذكرى كاتب حظي بالعالمية، هو محمد شكري، وتنساب جمله وفقرات روايته الشهيرة «الخبز الحافي» لتسرد علينا بعضا من مدينة طنجة كما عرفها، مدينة جميلة لكنها غامضة، ساحرة وأيضا موغلة في الرهبة من يومياتها.

هذه المدينة الساحرة التي تأسست سنة 1320 قبل الميلاد، تغطي مساحة تبلغ 124 كيلومترا مربعا، وترتفع عن سطح البحر مئة وخمسةً وأربعين كيلومتر، أما ألقابها فعديدة مثل جاذبيتها، فمن عاصمة البوغاز إلى عروس الشمال وطنجة العالية وغيرها من الأسماء التي تترجم العشق لها.

من أشهر معالمها الطبيعية مغارة هرقل التي شاء لها تصريف الرياح وتوارد مياه البحر عليها أن تتشكل مثل خريطة أفريقيا، لتجسد المدينة بالفعل وصفها من كونها بوابة أوروبا نحو أفريقيا وأيضا بوابة أفريقيا نحو أوروبا.

نقطة لقاء

هي المدينة التي تجاور جبل طارق، وعند مضيقه تستنشق ريحا يمتزج بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، جوها معتدل في الصيف كما في الشتاء، يتكيف مع تقلبات الطقس، لا هو بالبارد جدا ولا بالساخن جدا، فالرياح تهب عليها من كل النواحي من المحيط الأطلسي والأبيض المتوسط، تحتوي على عدد متنوّع من التضاريس التي تتمثّلُ في الهضاب كهضبة مرشات، والسواحل الساحليّة كساحل البحر الأبيض المتوسّط، وساحل المحيط الأطلسيّ، والخلجان كالخليج الكبير، والبحيرات كبحيرة سيدي قاسم، والوديان كوادي الملاح، ووادي الشط، والجبال كالجبل الكبير، والغابات كغابة الرميلات، وغابة مسنانة.

طنجة هي أيضا «الطنجيون» أي سكان المدينة وأبناؤها الذين رضعوا حليب التواصل من ثدي المدينة المرضعة، التي لا يكاد يتذوق زائر بعضا من قطراته حتى يدمن عليها وينتمي إليها، وتحضرنا هنا ذكرى كتاب عالميين كبار سنعود إليهم لاحقا.

أهل طنجة هم من معالم المدينة أيضا، لا يمكنك أن تفقد البوصلة فيها، فالكل يدلك على مبتغاك، مسألة التيه فيها مستبعدة جدا، فلن تجد نفسك وحيدا أبدا، ومن يسأل يُجاب بدون تأخر أو تردد، قد تكون بعض هذه الملامح سائرة في طريق الزوال مثل باقي مدن المغرب الكبرى، أو بالأحرى كل مدن العالم الكبرى، هي الحداثة والعزلة داخل الذات التي تفرض قيمها الجديدة على سكان الكرة الأرضية.

من السكان نتوقف عند التاريخ مرة أخرى، ونسترجع حضارات متوسطية كانت طنجة حاضنتها، وهي غنية بماضيها الكبير والمشع، بين الانتماء الأمازيغي الأول إلى الحضارة العربية الإسلامية، مرورا بالحضارة الفينيقية واليونانية أيضا.

لكنها تظل المدينة الدولية دائما، فهي المنفتحة على الجميع والكل يجد ذاته فيها، يحس بالانتماء كما لو كان أحد أبنائها، تماما مثل مراكش الحمراء «الولّافة».

وتتوزع مدينة طنجة بين «مغوغة» وطنجة المدينة والشرف السواني وبني مكادة، وهي أيضا مركز تجاري بامتياز، بعد أن صارت قاطرة للتبادل التجاري المغربي مع العالم من خلال معلمتها الحديثة ميناء طنجة المتوسط.

والحديث عن التاريخ يجرنا حتما إلى التجول في بعض معالمها، المدينة القديمة القصبة، وأبوابها العتيقة كباب القصبة وباب حاحا وباب العسة، ومغارة هرقل، ومنتجع طنجة سيتي سانتر، وبرج النعام، والجامع الكبير، والكنيسة الإسبانيّة.

ومن ضمن الفضاءات الشهيرة وسط المدينة سور المعاكيز أو «المعكازين» كما يحب الطنجيون تسميته، وتعني الكسالى أو المتثاقلون بالدارجة المغربية. يقع هذا السور في أهم شارع في طنجة، وتعددت الأساطير حول سر تسمية هذا السور باسم سور المعاكيز الذي توجد فيه مدافع قديمة، فمنها من تقول إن شباب طنجة كانوا يقصدون السور للتطلع إلى ما وراء البحار والحلم بحياة أفضل في أوروبا، وأخرى ربطته بكونه نقطة كان يجتمع فيها كبار السن لأخذ قسط من الراحة أو لتمضية الوقت، لكنه صار اليوم قبلة للسياح من داخل المغرب وخارجه.

وكسائر المدن اللامنتهية في جمالها، تأسرك الأساطير التي تحوم حولها، فاسمها كما قيل في حكايات غابرة مستمد من طوفان بحريّ أدّى إلى حدوث صراعٍ بين الرمز البحريّ القوي أطلس والعملاق أنطي، وكانت طنجة هي أرملة أنطي الذي قتله أطلس.

أما الحكاية الأخرى فترتبط بطوفان نوح المذكور في الكتب السماوية، كما توجد قصة تُشير إلى أن اسم طنجة يعود لاسم إحدى الأميرات التي سُمّيت المدينة على اسمها حتّى تكون تذكاراً لها.

ويبقى اسم طنجة لغزا مثل فتنتها، حتى معجم لسان العرب لم يطفئ الظمأ لمعرفة المزيد حيث ورد به اسم «طنوج» دلالة على طنجة بدون توضيحات.

ورغم الاختلاف حول معنى اسمها، فإن الكل يتوحد في الاقتناع بكون طنجة ساهم موقعها الاستراتيجيّ والتاريخي في أن تكون صلة وصل بين العديد من الحضارات. فقد مر من دربها العتيق الوندال، والبونيقيون، والرومان، والفينيقيون، وغيرهم من الشعوب الأُخرى، وكل هؤلاء تدل عليهم آثارهم الباقية ومواقع تاريخية.

وكان لقاء الحضارة الإسلامية العربية بها، سنة 711 ميلادية، حين وصلها الفتح الإسلاميّ فأصبحت ممر عبور جيش المسلمين إلى أراضي إسبانيا بقيادة طارق بن زياد فاتح الأندلس.

ما يميز تاريخ طنجة أيضا، هو دورها المهم جدا في التبادل التجاري بين المغرب وباقي دول العمور وخاصة الدول الأوروبية، هذا الإغراء التجاري إن صح التعبير، دفع العديد من الدول إلى محاولة استعمارها والانفراد بها، لتنتهي الحكاية في الفترة الزمنيّة بين سنتي 1911 و1912 حين وُقِّعَ بروتوكول طنجة الدولي، لتصبح المدينة سنة 1923 منطقةً دوليّة مع إقليمها، وحُكِمت طنجة بالاعتماد على اتفاقيّة عام 1925 التي جمعت بين مجموعة من الدول الكبرى وسلطان المغرب.

لغز المغارة وسحر الحافة

من بين الوجهات المفضلة لدى زائر طنجة مغارة هرقل التي تبعد عن وسط المدينة إلى الغرب بحوالي 14 كلم، فهي موقع أثري مذهل ورائع ومليء بالغموض. من الداخل، ومن خلال فجوتها الكبيرة التي تواجه المحيط الأطلسي، يمكن رؤية غروب الشمس ورأس مضيق جبل طارق، هذا المنظر المواجه للبحر جرى التقاط صور فوتوغرافية له آلاف المرات، لجماله بالطبع، ولكن أيضًا لأنه يتخذ شكل أفريقيا.

ويحظى الموقع بشعبية كبيرة، لكن ليس ذلك ما جعله مشهورًا جدًا. في الواقع، إذا كانت مغارة هرقل نقطة جذب سياحي في المغرب، فذلك لأن الموقع يحتوي على آثار احتلال ما قبل التاريخ بالإضافة إلى لغز أثري.

تقول الحكاية التي تنقلها بعض الموسوعات إن أفريقيا كانت متصلة بأوروبا، وتفصل هذه المنطقة المتوسطة بحر الروم (البحر المتوسط) عن بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) ولما كان لأطلس ابن نبتون ثلاث بنات يعشن في بستان يطرح تفاحا ذهبيا ويحرسهن وحش، قاتله هرقل ابن جوبيتر وهزمه، لكن هرقل في غضبة من غضبات الصراع ضرب الجبل فانشق لتختلط مياه المتوسط الزرقاء بمياه الأطلسي الخضراء، وتنفصل أوروبا عن أفريقيا، ثم يزوج هرقل ابنه سوفاكيس لإحدى بنات نبتون ليثمر زواجهما بنتا جميلة أسموها طانجيس، ومنها جاء اسم مدينة طنجة؛ وفق الرواية الأسطورية طبعًا.

مكان آخر لا يقل جاذبية بالنسبة لأبناء طنجة وزوارها، هو مقهى الحافة الذي يمتد تاريخه لما يقرب من 100 عام. مكان أسطوري معروف عالميا بإطلالة ساحرة على المحيط الأطلسي

بُني المقهى عام 1921 على منحدر أو حافة كما يشير إلى ذلك الاسم، ويوفّر إطلالة رائعة على مياه البحر. موقعه، وأجواؤه، شاي النعناع الشهير الخاص به، كل ذلك وغيره أغرى الكثير من المشاهير لزيارته بمن فيهم فرقة ذا رولينج ستونز، وفنان البلوز والروك الشهير جيمي هندريكس، والممثل والمنتج شون كونري، والكاتب بول باولز… لقد غيّر الزمن كل شيء ما عدا هذا المكان؛ ظلّ صامتًا وساحرًا كما كان من قبل. جيلًا بعد جيل، يلتقي لاعبو الشطرنج والشعراء والكتاب والفنانون والعشاق وعموم الناس.

كتاب أقاموا في طنجة

متعة الحكي عن طنجة لا تتوقف بالجولات والتأملات، بل أيضا بقراءة ما كتب عنها بأقلام كبار الأدباء وما رسم بريشة كبار التشكيليين، وكما أسلفنا يبقى محمد شكري أحد معالم طنجة الثقافية، فهو صاحب الرواية المغربية الأشهر على الإطلاق «الخبز الحافي» والتي ترجمت إلى العديد من اللغات.

لكن أيضا، يبقى إلى جانب حضور شكري، هناك حضور وازن آخر للكاتب الامريكي بول بولز الذي عاش ومات في طنجة، هذا الكاتب الذي ظل وفيا لعاصمة البوغاز ويزفها في ذاكرته بالفعل كعروس الشمال.

سلسلة الأسماء لا تتوقف عند شكري وبولز فقط، بل تتواصل لتبلغ الكاتب الأمريكي براين جيسن الذي اضطره مرضه المزمن إلى مغادرة طنجة، لكن ارتباطه بالمدينة لم يخفت أبدا فقد أوصى بأن ينثر رماده في أماكن معينة بالمدينة، وهو ما أوفت به آن كومين فيليستي التي حملت رماده وقامت بنثره في أماكن متفرقة.

أيضا الصحافي والتر هاريز، الذي عمل في صحيفة «تايمز» اللندنية، أوصى بدوره أن يدفن بطنجة، إلى جانب هؤلاء يقف أيضا اسم كبير وهو الكاتب الفرنسي جان جينيه، الذي عشق طنجة ودفن بالقرب منها وبالضبط في مدينة العرائش.

بين المقيمين والعابرين والزائرين، كان هناك رابط قوي هو عشق طنجة، ونذكر من بين هؤلاء الزوار المفتونين بحب عاصمة البوغاز: جيرترود شتاين، والكاتب الأمريكي تينسي وليامز، والمخرج الإيطالي بريناردو بيرتولوتشي، والكاتب الأمريكي جون ستينهام، والكاتب الأمريكي اللاتيني رودريغو راي روسا، والروائية الفرنسية فيليسي ديبوا، والكاتب المسرحي صاموئيل بكيت، ودولاكروا، ومارك توين، وبراين جيسن، وترومان كابوتي، وجاك كرواك، وألفريد تشستر، وروبين داريو، وبلاسكو إيبانيت، وبيوباروخا ووليام بروز، كما نالت طنجة زيارة من فرقة موسيقية شهيرة جدا وهي «رولينغ ستون».للكتاب العرب أيضا كان نصيب من عشق طنجة، فهم على تواصل معها ومع الكتاب المغاربة زملائهم في القلم يسردون قصصهم المتفرقة في كلمات تبقى راسخة في ذهن القارئ.

ميناء طنجة المتوسط

من المستحيل أن تذكر طنجة الحديثة من دون أن تذكر مينائها الكبير الذي أعطى نفسا جديدا للاقتصاد المغربي، ومنح الريادة بعد أن راكم سنوات من العمل الدؤوب ونال ثقة القريب والبعيد من دول العالم حتى تبوأ في أكثر من مرة المراتب الأولى عالميا.

وتحضرني هنا ورقة كتبتها وكالة الأنباء الفرنسية، كانت عبارة عن غزل في المدينة وميناء طنجة المتوسط، الذي «قَلَبَ شكل المدينة وحياتها رأسا على عقب، وبثّ فيها روحا من الحداثة تتعايش جنبا إلى جنب مع الأصالة التي تطبع عاصمة البوغاز بعد وقت طويل من النسيان».

وتتابع الوكالة ورقتها، مشيرة إلى أن «السيّاح الذين يجوبون المدينة في حافلات حمراء مكشوفة، صاروا يرون الأسوار والواجهات التاريخية في طنجة العتيقة. أما الكورنيش، فهو شاهد على حداثة تجتاح المدينة في الآونة الأخيرة».

وبخصوص ميناء طنجة المتوسط، الذي دشنه العاهل المغربي الملك محمد السادس سنة 2013 فيندرج ضمن برنامج ضخم لإعادة هيكلة المدينة.

المشروع الكبير، به استثمارات تقدر بـ7.6 مليارات درهم (حوالي 630 مليون يورو) خصص ربعها للواجهة البحرية.

ومنذ ذلك الحين، صار ميناء طنجة المتوسط حجر الزاوية في بناء نهضة اقتصادية مغايرة وتسريع وتيرة النمو حتى صار من أهم موانئ العالم وأكثرها قدرة على جذب السفن والبواخر العالمية.

السؤال الذي يظل عالقا في ذهن الزائر لطنجة، هل يستطيع أن يتجاهل العودة إلى عاصمة البوغاز وأن يمني نفسه بلقاء متجدد مع عروسة الشمال؟ الجواب حتما لا، فالزائر عائد والعابر قد يصبح مقيما في طنجة العالية.

تابع آخبار تليكسبريس على akhbar